الشارقة: جاكاتي الشيخ
يمنح التنوع الأسلوبي الذي يتمتع به فن الخط العربي للخطاطين الحقيقيين الكثير من الحرية، لتأكيد قدراتهم الإبداعية، خلافاً لما يركن إليه البعض من الاعتماد على القوالب الجاهزة، التي تجعل أعمالهم مجرد نسخ مكررة، وهي النقطة التي يمكن من خلالها تمييز الخطاطين الموهوبين، الممتلكين لملكة الخَلْق من غيرهم؛ لأن الخطاط الحقيقي هو ذلك الذي يطبع عمله الفني ببصمته الخاصة، مثل ما نجده لدى الفنان البحريني علي عبد الواحد شهاب.
إن مما يميز أعمال الخطاط علي شهاب هو كونه من أولئك الخطاطين الذين يبذلون الكثير من الجهد من أجل تقديم أعمال فنية تليق بالاحتفاء؛ لما تتميز به من التزام بأصول فن الخط العربي من جهة، وما يصبغه عليها من خصوصيات مستمدة من نَفَسٍ إبداعي حداثي رصين، يجعل اللوحة تمزج بين خصائص الخط التقليدي الموروثة، وملامح الفن التشكيلي المعاصر، وهو ما استمدّه من خلفيته في الفن التشكيلي، وخبرته في مختلف أنواع الخطوط العربية، ويظهر ذلك بشكل أوضح في أعماله التي ينفذها بخط النستعليق، مثل اللوحة التي نتناولها في هذه المعالجة.
خلق
كتب شهاب في هذه اللوحة جزءاً من نص الآية 5 من سورة الحج، التي يقول فيها جلّ مِنْ قائل: ﴿وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ﴾؛ حيث تبرز إحدى آيات الخلق، الدّالة على القدرة الإلهية، التي تحوّل القفرَ المَوَات إلى حياة فائضة بالعطاء، ومُبهجة بالجمال، وقد كتبها بخط النستعليق؛ لما يمنحه من حرية فنية، ولما يتميز به من خصائص أسلوبية، تجعله خالياً من التشكيل والتزيين، إلا حين تدعو الضرورة الإبداعية إليهما، حيث تنساب حروفه برقة وسلاسة، متباينة بين الاستلقاء والمـــدود، ومتنوّعــــة في أحجامهـــا، بالإضافة إلى ما تمنحه السرر والزوايا والأشرطة الزخرفية الملونة في الإطار، التي عكف على تنفيذها كبار المزخرفين لهذا النوع الخطي من جمال وبهجة، كما أن التطور الحضاري الذي أسهم بتقديم ورق ملون ومموه ومشجر، فتح آفاقاً جديدة للفنانين، مكّنتهم من استعماله – في بعض الأحيان – كأرضيات جميلة تربعت على صفحاتها أجمل لوحاته، فأضافت لها إشراقاً مُتجدِّداً، وكلّها خصائص حرص شهاب على الالتزام بأهمها في لوحته هذه.
سلاسة إبداعية
خطّ شهاب لوحته تنازلياً، بِعِدة كُتل متباعدة، في تشكيل بصري يجعل مساحات الفراغ جزءاً من عملية التنفيذ، حتى يصل المعنى الدلالي للمشاهد بسلاسة إبداعية رصينة، فجعل الكتلة الأولى في الأعلى على مستويين، كتب في أولهما «وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً»، وكأنه يريــد من المتلقي أن يستحضر في إطار بصري تلك الأرض الهامدة، فاتحاً أمامه في نفس الوقت أفق الانتظار لما سيأتي بعدها، ثم كتب في ثاني مستويات ذات الكتلة «فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ»، ليملأ ذلك الأفق أمَلاً وحياةً، سينقلان الأرض الهامدة إلى مرحلة أخرى، ذلك الانتقال الذي مثّل له بنقطتي «عليها» النازلتين، اللتين تحيلان إلى انهمار المطر، ثم كتب «اهْتَزَّتْ» ككتلة منفردة، وبشكل كبير جدّاً، وقد خطّها بطريقة اهتزازية موحية بالمعنى الدقيق للكلمة، وحيث لا يدع مجالاً للشك في دقة تنفيذه للتفاصيل الفنية للوحته، ثمّ كتب «وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ» ككتلة واحدة، وبتركيب الْتفافي بديع، استغلّ فيه كل حرف وكل نقطة لتبدو الكتلة في تناسق شكلي تام، يعكس المعنى المتكامل للكلمتين، ودلالته على اكتمال عملية الخلق النباتي، وما ستُفضي إليه من أسباب الحياة، وقد جعل تلك الكتلة صغيرة إشارة إلى كون ما تعنيه مجرّد بذرة لعطاء الله الكثير الذي سيأتي، ثم كتب في الكتلة الأخيرة «مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ»، وقد جعلها كبيرة وأكثر تنويعاً خطياً من غيرها، ليشير إلى دلالتها في تنوّع خلق الله مما تُنبت الأرض من رزقه لعباده، وما يكون مع ذلك الرزق من جمال يبهج النفوس.
وكان لاختيار الفنان لحبر بُنِّي دلالة على ارتباط الإنسان بالأرض، لما يهبه الله منها من أسباب العيش والأُلفة، كما كان لاختيار خلفية برتقالية اللون دلالة على ما يعنيه هذا العمل، من دعوة للتفاؤل، والشعور بالدفء والسعادة، والاستبشار بالعطاء، وتخطي الأزمات، هذا بالإضافة إلى الإطار الزخرفي المنوّع الذي يتماشى مع المعاني الكُليّة لهذا العمل المُشرق، وكل ذلك يؤكد القدرة الإبداعية الكبيرة لهذا الفنان.
0 تعليق