الشارقة: جاكاتي الشيخ
يتميز بعض الفنانين في تجاربهم في مجال الخط العربي بكونهم يسعون إلى إظهار جمالياته بمختلف السبل، حتى إن من بينهم من تعَوّد في أعماله على المزج بين عدة خطوط من الأنواع التقليدية، مبرزين بذلك مستويات التناسق العالية التي تتمتع بها أساليبه على اختلاف أنماطها، وهو ما نجده لدى الخطاط التونسي عامر بن جدو.
يعتبر عامر بن جدو أحد الخطاطين المبدعين، الذي يبذلون الكثير من الجهد من أجل رفد مسيرة الخط العربي بتجربة جديدة تجمع بين الأصالة والتجديد، وهو ما جعله يركز في العديد من أعماله على المزج بين الخط الكوفي القيرواني والخط المغربي، لكونهما النوعين الأشهر استخداماً في منطقة المغرب العربي، ولحاجتهما إلى المزيد من الضوء، ليتعرف إليهما المتلقي العربي، وغيره من عشاق هذا الفن الجميل، خاصة أنه يوظفهما توظيفاً مختلفاً عن المتعارف عليه، حيث يطبع أعماله بمسحة تشكيلية حداثية، تضع الخط العربي في مكانته المستحقة بين الفنون الجميلة المعاصرة، وهو ما نلاحظه من خلال لوحته التي بين أيدينا.
مزيج خطّي
اختار بن جدو أن يكتب في لوحته هذه نص الآية 85 من سورة الإسراء، التي يقول فيها جلّ وعَلا: ﴿وَيَسْـَٔلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّى وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾، وهي آية يتحدّى فيها الله، تبارك وتعالى، البشر جميعاً، في أمر الروح التي لا يعلم سرّها إلا هو، وهو ما يعتبر من الأدلة على سعة علمه، وقلّة علم البشر، وقد استخدم الخطاط في كتابة نصّها خطَّيْ المجوهر المغربي الذي كتب به نص الآية كاملاً في أسفل اللوحة، والكوفي القيرواني، الذي كتب به جزءاً منها بشكل كبير، حيث يتميز الأول بتقارب حروفه وتناسبها، وتناسق سطوره، بينما يتميّز الكوفي القيرواني بأنه خطّ كبير الحروف، لا تكاد تنفصل أجزاء حروفه عن بعضها بعضاً إلا بخيط رقيق مُستَوٍ، ويمتاز ببعض التمديد في وصل حرف بآخر، وترسم بعض أجزاء حروفه رسماً هندسياً دقيقاً، وذلك لتفاوت مستويات الحرف الواحد، إذ يكون غليظاً في جزء منه ورقيقاً في جزء آخر، أمّا مَحاجِر الحروف فتكون عيونها ضيقة جدّاً، وكلها خصائص اجتهد بن جدو في الالتزام بها في لوحته لتأكيد جمالية الحرف العربي، في مختلف تجلياته.
سمات بصرية
نفذ بن جدو لوحته في كتلتين متصلتين، ومختلفتين في الحجم، حيث كتب في الأولى نص الآية كاملاً، بحروف صغيرة، وبحبر أحمر، وبشكل نصف دائري، مشكِّلةً قاعدة الشكل العام للتكوين الخطي، لكي يضع المشاهد في الصورة الكاملة لدلالة النص.
أما الكتلة الثانية، فقد كتبها بحروف كبيرة، وبحبر أسود، وبشكل تركيبي مُتقن، لكونها عنوان اللوحة، والهدف الرئيسي من التقاط النص وتجسيده خطيّاً، حيث بدأها بكتابة «قُل» التي جعلها حاملة لما يأتي بعدها من النص، وجعل الجزء السفلي من لامها محدوداً بالآية المكتوبة بشكل نصف دائري، ليشير إلى الأمر القطعي الوارد في الآية من الله، تبارك وتعالى، لرسوله، صلى الله عليه وسلّم، في شأن الرّوح، ثم كتب «الرُّوحُ» حاملة لما يأتي بعدها من النص أيضاً، راسماً الطرف السفلي من حائها بشكل أفقي مقوّس قليلاً نحو الأسفل، ومتقاطعاً مع حروف الراء والواو، ولام «قل» لزيادة التأكيد القطعي سالف الذكر، وللإشارة إلى عظم شأن الروح، ثم كتب «مِنْ» فوق «الروح» مباشرة، وملامسة لها، حيث داخل قليلاً بين حروفهما، للدلالة على معنى «من»، ثم كتب «أَمْرِ» ملامسة لـ «من» أيضاً، وقد داخل كذلك بين حروفهما، للدلالة على دور كلمة «أمر» في الآية، وليمنح التماثل الشكلي لحرفي الميم في «من» و«أمر»؛ وحرف الواو في «الروح» تناسقاً بصرياً رائعاً، ثم كتب «ربّي» في أعلى الكتلة، مادّاً الجزء السفلي من حرف الياء بشكل أفقي، وعاكفاً إياه نحو الأعلى ليبدو طرفه بشكل مدبّب، إشارة إلى إيغال أمر الروح في الغموض، حيث لا يعلمه إلا الله.
إن ما تبدو عليه هذه اللوحة يظهر المستوى الإبداعي لهذا الفنان، الذي تمكّن من توظيف تقنيات الخط العربي بأسلوب حديث، لإيصال رسالته الفنية، وبسْط مضامين نصه الدلالية، وهو ما يظهر في العديد من السمات البصرية، كالخلفية الغامقة، والألفات الممدودة في تباين، والمساحة المتروكة في حضن حرف اللام، وتموضع النقاط الحمراء، ولوني الحبر الأسود والأحمر الدالين على القوة، لأن الملامح الجمالية والدلالية للوحة تعكس قدرة الخالق التي تُعجِز الإنسان.
إضاءة
ولد الفنان عامر بن جدو سنة 1954م، وهو مدرّس تعليم ابتدائي متقاعد وخطّاط، بدأ دراسته للخطّ العربي في أواخر شبابه اعتماداً على بعض الكراسات التعليمية، ثم واصل دراسته تحت إشراف الخطاط محمّد ياسين مطير، وفي سنة 2006 حصل على الجائزة الثالثة في المسابقة الوطنية للخطّ العربي في الخطّ الكوفي القيرواني، وشارك في عدة دورات من مسابقات إرسيكا للخط العربي بتركيا، حيث فاز فيها بجائزتين في الخط الكوفي القيرواني، كما شارك في عدة ملتقيات ومعارض داخل بلاده وخارجها، ولديه العديد من اللوحات المعروضة في أماكن مختلفة من العالم.
0 تعليق