شغف التجريب - ستاد العرب

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

القاهرة: مدحت صفوت
على الرغم من أن الأدب العربي القديم اعتمد قديماً وبشكل كبير على الشعر الغنائي، فإن تأثيرات الثقافات والحضارات الأخرى أسهمت في ظهور أشكال جديدة من التعبير الدرامي، والتي بدأت في القرن التاسع عشر، مع بعض المحاولات لترجمة الأعمال المسرحية الأجنبية وتقديمها للجمهور العربي، ولعب رواد مثل مارون النقاش وأبو خليل القباني دوراً حاسماً في تطوير هذا الفن، وعملوا على تطويع الموروث الشعبي العربي وتقديمه في قالب مسرحي.
ومنذ البدايات، ثمة عوامل لعبت الدور الأبرز في تطوير المسرح العربي، أبرزها الاحتكاك بالثقافات الأخرى، خاصة بعد الحملة الفرنسية على مصر، بجانب تأسيس الفرق المسرحية على يد الجيل الأول، ومن ثم برز العديد من الكتاب المسرحيين الذين قدموا أعمالاً أصيلة تعبر عن هموم وقضايا المجتمع، ومع مرور الوقت أسهم انتشار التعليم في زيادة الوعي بأهمية الفنون والثقافة، ما شجع على تطوير المسرح، إلى أن صار لدينا مسرح عربي، وله أشكال وتوجهات متباينة.
المفهوم والتاريخ
واحد من هذه الأشكال «مسرح الشباب»، المفهوم الذي يشير إلى كل عمل مسرحي يقدمه فنانون شباب أو يستهدف جمهوراً شاباً، ويحمل في طياته هموم وقضايا هذا الجيل. قد يكون هذا المسرح تجريبياً أو تقليدياً، لكنه يجمع بين حيوية الشباب وإبداعهم وبين رغبتهم في التعبير عن أنفسهم وعالمهم، كما يمثل نافذةً واسعةً على عالم الشباب وآمالهم وطموحاتهم وتحدياتهم. إنه مرآة تعكس انعكاسات المجتمع وتغيراته، كما أنه منصة لإطلاق العنان للإبداع والابتكار.
ويسهم هذا النوع في تطوير الوعي الاجتماعي والسياسي والثقافي لدى الشباب، ويشجعهم على التفكير النقدي، كما يعتبر حاضنة للمواهب الشابة في مجال التمثيل والإخراج والكتابة المسرحية، ومصدراً يضخ دماء جديدة في عالم المسرح، ويقدم رؤى مبتكرة وأفكاراً مغايرة، الأمر الذي يساعد في بناء جيل جديد من الجمهور المسرحي، ويشجع على حب الفنون الدرامية.
وعلى الرغم من عودة فكرة تاريخ مسرح الشباب إلى العصور القديمة، فإن المفهوم الحديث بدأ يتبلور في القرن العشرين، مع تزايد الاهتمام بقضايا الشباب وتطلعاتهم، خاصة وأن القرن الفائت شهد نشوء العديد من الفرق المسرحية الشبابية في مختلف أنحاء العالم، والتي قدمت عروضاً تعبر عن هموم الشباب وتطلعاتهم، وشهدت فترتا الستينيات والسبعينيات ازدهاراً كبيراً في هذا النوع، خاصة بعد أن ارتبط بحركات الشباب والثورة الثقافية.
ويتخذ مسرح الشباب أشكالاً متنوعة، منها مسرح المدارس، والهواة أي تقديم العروض خارج إطار المؤسسات الرسمية، كذلك مسرح المحترفين وعناصره من الشباب الذين تلقوا تدريباً مهنياً في مجال المسرح، كذلك فرق مسرح الشارع، وبعض أشكال الفلاش موب، وأخيراً عروض الوسائط الرقمية.
وشهد مسرح الشباب تطوراً ملحوظاً على مر السنين، منتقلاً من كونه مجرد نشاط هاو إلى شكل فني متكامل. وكانت المرحلة الأولى تتميز بالبساطة والارتجال، وتعتمد بشكل كبير على الموهبة الفردية، ثم المرحلة الثانية التي شهدت تطوراً في التقنيات المسرحية، واهتماماً أكبر بالكتابة الدرامية والإخراج، وأخيراً المرحلة الثالثة وأصبحت أكثر احترافية، وبدأت تتنافس مع المسرح التقليدي.
تحديات
ويواجه مسرح الشباب اليوم تحديات عدّة، مثل انتشار وسائل التواصل الاجتماعي وتغير عادات الجمهور، لكن في الوقت نفسه، يوفر له الإنترنت فرصاً جديدة للوصول إلى جمهور أوسع، كما يعاني في بعض البلدان نقص الدعم المادي من قبل المؤسسات الحكومية والخاصة، ويواجه صعوبة في الوصول إلى الجمهور وتسويق عروضه، فضلاً عن افتقار العديد من الشباب إلى الخبرة الكافية في مجال المسرح.
بتتبع مسرح الشباب في مصر، سنجد أن المسرح المصري في عمومه شهد عصراً ذهبياً في منتصف القرن العشرين، قبل أن يواجه تحديات أثرت في مكانته بالثقافة المصرية. ففي العقود الأخيرة، شهدنا تراجعاً ملحوظاً في إقبال الجمهور على المسرح، وذلك لأسباب مختلفة منها المنافسة الشديدة من وسائل الإعلام الجديدة، مثل التلفزيون والمنصات الرقمية. كما أن الإغلاقات المتكررة للمسارح، سواء لأسباب اقتصادية أو بسبب جائحة كورونا، قد أسهمت في تفاقم الأزمة.
ورغم التحديات، يواصل جيل جديد من الفنانين المصريين محاولة إحياء المسرح الشبابي. فبعد أن كانت الساحة تهيمن عليها المسارح الحكومية، برزت العديد من الفرق المستقلة التي تقدم عروضاً تجريبية مبتكرة، وإن واجهت نقص التمويل وصعوبة الحصول على مساحات عرض مناسبة.
وتواجه الساحة المسرحية في مصر ظاهرة مثيرة للاهتمام، تتمثل في تزايد أعداد الفرق الشبابية المستقلة التي تعمل خارج إطار المسارح الحكومية التابعة لوزارة الثقافة. هذه الفرق الشبابية تجد نفسها مضطرة للعمل في منظومة موازية، وذلك بسبب القيود التي تفرضها النقابة على الوصول إلى المسارح الحكومية. فالشروط اللازمة لعرض مسرحية في هذه المسارح، والتي تشمل عضوية المخرج في نقابة الممثلين، تجعل من الصعب على الفنانين المستقلين، خاصة الشباب منهم، تحقيق طموحاتهم الفنية. وتدفع البيروقراطية المتشابكة بالعديد من المخرجين الشباب إلى البحث عن بدائل في المسارح الخاصة، حيث يجدون مساحة أكبر للتجريب والإبداع بعيداً عن القيود البيروقراطية التي تعيق حركتهم الإبداعية.
ومن جهة المضمون، لعب المسرح المستقل دوراً مهماً في التعبير عن هموم الشباب المصري وتسليط الضوء على القضايا الاجتماعية والسياسية. وقد شهدنا في السنوات الأخيرة ازدهاراً للمسرح الشبابي الذي يقدم عروضاً تجريبية ومبتكرة تتناسب مع اهتمامات الجيل الجديد.
خريطة
إذا أردنا أن نرسم خريطة لمسرح الشباب في مصر، فإن الأمر يتطلب مجهوداً يفوق طاقة الكتابة المقالية، ومع ذلك يمكن أن نتوقف أمام أبرز التجارب الشبابية، منها مسرح الفلكي في الجامعة الأمريكية بالقاهرة، ومسرح النهضة التابع للمركز اليسوعي الثقافي، وساقية عبد المنعم الصاوي، بجانب مسرح روابط الذي أعيد افتتاحه بعد سنوات من الإغلاق.
ومع وجود المسارح السابقة، فإن المشكلة تكمن في تراجع عدد المسارح الخاصة على نحو ملحوظ، وهو ما يؤثر سلباً في الحركة المسرحية المستقلة. ويشير المتخصصون إلى أن نقص التمويل هو العامل الرئيسي وراء هذا التراجع. فإنشاء وإدارة مسرح خاص يتطلب استثمارات مالية كبيرة، وهو أمر يصعب على الكثيرين تحمله. ومع ذلك، تبقى هذه المسارح ملاذاً للكثير من الفنانين الشباب، حيث توفر لهم مساحة للإبداع والتجريب. يعتبر مسرح «الهوسابير» في الأزبكية مثالاً حياً على هذه المسارح، فهو أحد أقدم المسارح الخاصة في مصر، وقد استضاف العديد من الفرق المسرحية على مر السنين، بما في ذلك فرقة سمير غانم الشهيرة.
مهرجانات دولية
بجانب المسارح السابقة، ثمة مهرجانات وفعاليات تُعنى بمسرح الشباب، منها مهرجان شرم الشيخ الدولي للمسرح الشبابي، الذي يرأسه الفنان والمخرج مازن الغرباوي، ويعد منصة شهيرة في سماء المسرح الشبابي في المنطقة، إذ يعقد الحدث على نحو سنوي في مدينة شرم الشيخ، ويشكل قاعدة خصبة للمواهب الشابة من مختلف البلدان لعرض أعمالهم الإبداعية. ومن خلال مسابقاته وعروضه المتنوعة، وورش العمل التي يقيمها، يسهم المهرجان في صقل مهارات الشباب وتشجيعهم على الابتكار والتجديد في مجال المسرح، ما يثري الحركة المسرحية ويضمن استمراريتها.
ومنذ سنوات قليلة، انطلق مسرح شباب العالم في نسخته الأولى بمنتدى شباب العالم لعام 2018 وحقق نجاحاً غير مسبوق، وفي دورة 2022 ضم الحدث 300 موهبة من سبع وعشرين جنسية مختلفة وقدم أربعة وأربعين عرضاً، كما استضاف المسرح أكثر من مئة وسبع وعشرين جنسية. ويشكل المسرح منصة فريدة تجمع شباب العالم من مختلف الثقافات والجنسيات. تحت شعار «الفنون والثقافة جزء من التنمية وحق من حقوق الإنسان»، مقدماً فرصة ثمينة للشباب لعرض مواهبهم الفنية والإبداعية أمام جمهور عالمي.
وإقليمياً، هناك مهرجانات عدّة، مثل مهرجان الكويت لمسرح الشباب العربي، ومهرجان الرياض للمسرح الذي أقيمت دورته الأولى العام الماضي. ومع هذا يرى بعض المسرحيين أن المهرجانات الرسمية عموماً قد تعاني الروتينية والتشابه في برامجها، حيث تتكرر أسماء الضيوف والعروض المسرحية من عام لآخر، فضلاً عن تأثير الحسابات الشخصية والمصالح الخاصة في عملية اختيار العروض المشاركة، ما يدفع إلى تهميش بعض الأعمال الفنية الجيدة.
وعموماً، توفر المهرجانات منصة لعرض الأعمال الفنية والمسرحية المتنوعة، ما يمنح الجمهور فرصة التعرف إلى تجارب فنية جديدة ومبتكرة، كما تخلق فرصة للتواصل والتفاعل بين الثقافة المحلية والثقافات الزائرة، مع توفير فرصة للممثلين والمخرجين والكتاب المسرحيين لعرض مواهبهم وتطوير مهاراتهم. ويمكن للفنانين الشباب الاستفادة من هذه الفرصة للتعرف إلى المحترفين وبناء شبكة علاقات في صناعة المسرح.
تأهيل المهارات
في بادرة شبابية، أطلق «محترف كيف للفنون»، الذي أسسه المسرحي السعودي ياسر مدخلي، برنامجاً تدريبياً مكثفاً تحت عنوان «شغف»، وذلك في مايو/ أيار الماضي، بهدف صقل المواهب الشابة في المجال المسرحي، وتأهيل وتطوير المهارات في مختلف تخصصات المسرح مثل الكتابة والتمثيل والإنتاج والسينوغرافيا ومسرح الدمى. من خلال ورش عمل تطبيقية وفرص للعمل على مشاريع مشتركة، سعياً إلى بناء جيل جديد من المبدعين المسرحيين القادرين على الإسهام في تطوير المشهد الثقافي.

أخبار ذات صلة

0 تعليق