«ضجيج العصر».. معزوفة روائية تتغنى بالحرية - ستاد العرب

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

الشارقة: علاء الدين محمود
تعد رواية «ضجيج العصر»، للكاتب الإنجليزي جوليان بارنز، الصادرة في نسختها العربية عن دار روايات، في طبعتها الأولى عام 2019، بترجمة: عهود المخيني، من التحف الفنية النادرة، فهي عبارة عن سيرة ذاتية، أو بتعبير أدق «سيرة روائية»، توثق لحياة أحد كبار الفنانين خلال حقبة شمولية قاسية، حيث ينفتح العمل على كيفية العيش والحياة تحت النير والظلم ووقع ذلك على المثقفين والفنانين بما يتناقض مع تكوينهم النفسي الحساس والمناهض للقبح والذي ينشد الجمال وينقب عن الإبداع.
تتناول الرواية السيرة الذاتية للفنان الروسي شوستاكوفيتش «1906-1975»، الذي يعد من أشهر الموسيقيين في القرن العشرين، والسرد عبارة عن رحلة تحاول الإحاطة بحياته منذ البدايات الأولى، كيف تكونت وتشكلت، وكيف صار هذا الرجل واحداً من أفضل الفنانين في العالم، وفي ذات الوقت كيف غيبت السلطة السوفييتية صوته وحاولت أن تخنقه إلى الأبد، لكن الفن الحقيقي يظهر دائماً كنجم من بين الغيوم الثقيلة القاتمة التي تحاول قدر الإمكان أن تبتلعه أو تغييب نوره، لكنه يسطع ويملأ الدنيا بالبهاء والجمال.
ترصد الرواية الكثير من المنعطفات المهمة في حياة هذا الفنان، إلى جانب إضاءات عن عوالمه الخاصة والمظلمة التي لم يعرف عنها الناس الكثير.
تقدم دار النشر إضاءة على عوالم الرواية وفضائها الزماني والمكاني، عبر مقطع يركز على مشهد استهلال هذا العمل السردي الثري والمتنوع: «العام 1937، ورجلٌ في أوائل ثلاثينيّاته يقف منتظراً المصعد جوار باب شقّته. ينتظر طوال الليل، معتقداً أنه سوف يُقبض عليه في أي لحظة ويؤخذ إلى (البيت الكبير)، البيت الذي لم يخرج منه أحد دخلَ إليه. لقد استمع ستالين إلى إحدى مقطوعاته فلم يعجبه أداؤها، وحكم عليها... وهكذا تغيّرت حياته إلى الأبد».
تبع الأحداث صراع شوستاكوفيتش والسّلطة الحزبيّة الشيوعية في محاولاتها لتجيير الإبداع وإعادة تشكيله بما يوافق السياسيّ وذوقه. وتتأمل الرواية عميقاً في العلاقة بين الفنون والسّلطة المستبدة وكيف يمكنهما العيش سويّاً؟، ومن الواضح أن «البيت الكبير»، المشار إليه في الرواية هو المعتقل أو مكان التحقيق، بالتالي فإن تلك المقدمة تضع القارئ أمام موضوعها مباشرة.
*جمال متدفق
الرواية تأخذ القارئ صوب عوالم الموسيقى شوستاكوفيتش، ذلك المبدع الذي يعتبر فنه قوة روحية موحية وملهمة، حيث تحترم أعماله عقل الإنسان وكرامته وإرادته، وكثيراً ما رأى المؤرخون والمشتغلون بالموسيقى أن روائع شوستاكوفيتش تعبر عن الأحداث المعاصرة له، فقد كان منفعلاً ومتفاعلاً مع الواقع، وكرّس معظم مؤلفاته الموسيقية للأحداث التاريخية التي وقعت في بلاده، ومنها سيمفونيته «الحادية عشرة» عام 1968، وعمله اللافت المغنى «إعدام ستيبان رازين»، وملحمته العظيمة «لينينغراد». تأثر شوستاكوفيتش بتقاليد وضعها بيتهوفن وباخ ومالير، إلى جانب الموسيقيين الروس موسرغسكي وتشايكوفسكي وبروكوفييف، وحاربته السلطة السوفييتية، ولكن استمر فنه في الازدهار، وكان مبرر السلطات في موقفها من هذا المبدع، أن فنه يداعب ويدغدغ الروح البرجوازية المتدنية؛ التي لا تفهم الفن أساساً.

*شعر
الرواية قطعة سردية كتبت بلغة شاعرية، وأقرب إلى القطعة الموسيقية، ولا عجب، فالكاتب يعلم تماماً أنه في حضرة فنان وموسيقي، فكان أن استعار منه روح الموسيقى، وفي ذات الوقت التحدي والتمرّد، فالرواية تصوّر الانقلاب في حياة المؤلف جوليان بارنز نفسه؛ إذ تخلى فيها عن هدوئه المعهود، ورقته، ورفع راية التحدي والجراءة والحماس، وتلك هي الأشياء والثيمات التي تميزت بها الرواية، إلى حد أن عدداً كبيراً من النقاد أشاروا إلى أن هذا العمل أشبه بعوالم ميلاد كونديرا، فقد تحدث عنها الناقد الإنجليزي سكوت مان قائلاً: «الرواية تأمل عميق في مفهوم السلطة الغاشمة وعلاقتها بالفنون»، فيما ذكرت صحيفة «الأوبزرفر» البريطانية: «هذه الرواية هي تحفة بارنز الأدبية»، بينما وصفتها صحيفة «الصن دي تايمز» بكلمة واحدة: «صاعقة»، كما كتبت صحيفة «الغارديان» عن بارنز: «لقد قدم لنا رواية ذات تأثير قوي، تحفة فنية مكثفة تتتبع المعركة المستمرة مدى الحياة بين ضمير رجل واحد، وفن رجل واحد، مع مقتضيات الشمولية التي لا تطاق»، وقد امتد أثر هذه الرواية إلى العالم العربي، حيث كتبت عنها الروائية الكويتية بثينة العيسى: «هذه رواية عن المساومات، عن البطولة بوصفها ترفاً، عن المستحيل أيضاً، وهي مدخل سخيّ بالمعلومات ليس فقط عن روسيا السوفييتية وتحديداً في عهد ستالين، بل عن الموسيقى وأهلها».
*أسلوب
في هذه القطعة السردية تتجمع أساليب وتقنيات مختلفة، حيث اعتبرها بعض النقاد أحدث إضافة إلى الشكل الأدبي الهجين، السرد والسيرة الذاتية الخيالية، وأشاروا إلى أن هناك أعمالاً مشابهة تناولت حياة الفنانين والكتاب بصورة جمعت بين الواقع والخيال، مع التركيز على جوانب محددة، ففي هذه الرواية قدم بارنز، إضاءة عن العلاقة بين المثقف والسلطة المستبدة وكيف يمكن أن تكون عبر هذا النموذج الساطع والقوي، والمتمثل في حياة وشخصية هذا الموسيقار الفريد، وتأثير القوة في الفن، وحدود الشجاعة والنزاهة الشخصية والضمير، وقد وظف المؤلف عدداً من التقنيات المبتكرة من أجل تمرير الكثير من العوالم الثقيلة والبائسة، من خلال قوة الوصف والجماليات الشاعرية واللفتات البارعة عبر صناعة الصور والمشهديات والغوص العميق الواقعي والمتخيل في حياة بطل الرواية، ورصد مشاعر شوستاكوفيتش بدقة وتناول تناقضاته والأخطاء التي ارتكبها، وتابع لحظة تدهور صحته وذبول روحه، وأمله في أن «يحرر الموت موسيقاه... من حياته».
*معاني
الرواية تحتشد فيها المقولات التي تحمل المعنى والحكمة والرسائل والجمال في الوقت نفسه، ونقرأ فيها: «في العالم المثالي، لا ينبغي للشاب أن يكون شخصاً ساخراً. في هذا العمر، السخرية تمنع النمو، وتوقف الخيال. من الأفضل أن تبدأ الحياة بحالة ذهنية مرحة ومنفتحة، مؤمنة بالآخرين، متفائلة، صريحة مع الجميع في كل شيء. وبعد ذلك، عندما يفهم المرء الأشياء والأشخاص بشكل أفضل، يتطور لديه شعور بالسخرية. إن التطور الطبيعي لحياة الإنسان هو من التفاؤل إلى التشاؤم؛ والشعور بالسخرية يساعد على تخفيف التشاؤم ويساعد على إنتاج التوازن والانسجام».
*إضاءة
جوليان بارنز من مواليد 1946، في «لستر» في بريطانيا، وهو كاتب، ومترجم، وروائي، وكاتب مقالات، وناقد أدبي، وله مؤلفات في مجال الخيال العلمي، وهو عضو في الأكاديمية الأمريكية للفنون والعلوم، يعد أحد أهم الكتاب الإنجليز المعاصرين، ويشار إليه بأنه أحد أهم أعلام حركة ما بعد الحداثة الأدبية في إنجلترا، نال العديد من الجوائز والتكريمات، أهمها نيله جائزة «البوكر» العالمية عن رواية «الإحساس بالنهاية»، ومن أهم أعماله: «ببغاء فلوبير»، و«تاريخ العالم في عشرة فصول ونصف».
*اقتباسات
«الفن هو همسات التاريخ، التي تُسمع فوق ضجيج الزمن».
«السخرية الحقيقية هي السخرية التي فقدت روحها».
«إن نظرية الحب لا تتوافق مع واقع الحياة».
«لن تكون قادراً على كتابة سيمفونية لأنك قرأت كتيباً عن التأليف».
«أن تكون بطلاً كان أسهل بكثير من أن تكون جباناً».
«الفن ينتمي إلى أولئك الذين يصنعونه وأولئك الذين يستمتعون به».
«أن تكون جباناً ذلك يتطلب المثابرة ورفض التغيير».
«كم كان من السهل أن تكون شيوعياً عندما لا تعيش في ظل الشيوعية»
«إن الأوهام، حتى عندما تموت، تستمر في التعفن».
«الحياة ترفض البساطة دائمًا».
«الأقوياء لا يستطيعون إلا المواجهة».

أخبار ذات صلة

0 تعليق