سردية عربية للتسامح - ستاد العرب

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

يحيى زكي

يحتفل العالم في 16 نوفمبر/تشرين الثاني من كل عام باليوم الدولي للتسامح، والملاحظ أنه منذ سنوات تتعالى أصوات في العالم العربي تنادي بترسيخ ثقافة التسامح، نظراً لتعرض المنطقة خلال العقود الأخيرة إلى هجمة جماعات ترفض الآخر، وتدعو إلى التطرف وتمارس العنف، ولكن ما لم نتحدث عنه باستفاضة أن للتسامح في ثقافتنا العربية تاريخ طويل وسردية تستحق أن تُنشر على نطاق واسع.
شهدت المنطقة العربية في تاريخها القديم حضارات عدة، أشورية وبابلية وفينيقية وفرعونية وأمازيغية..الخ، هذه الحضارات تفاعلت مع الثقافة العربية التي بزغت وسادت مع الإسلام، وتشكل من كل ذلك «موزاييك» حضارياً تكّون من أقليات لغوية ودينية وعرقية تعايشت بجوار بعضها لقرون، ولم يحاول أي مكون حضاري إقصاء الآخر أو إلغاء وجوده.
صحيح أننا عرفنا فترات من التشدد مع تلك الأقليات ولكنها لم تصل إلى درجة الإبادة أو الترحيل التي شهدها المسلمون واليهود في الأندلس على سبيل المثال، ولم تشهد منطقتنا كذلك حروباً تبحث عن هوية ثابتة مثل أوروبا في حربي «المئة عام» و«الثلاثين عاماً»، ولم نقارن أنفسنا بحضارات أخرى حتى نخترع فكرة العدو. فالملاحظ أن العالم الإسلامي حتى في مرحلة الحملات الصليبية لم يتعامل مع أوروبا بوصفها الآخر العدو، وهو ما فعلته أوروبا خلال مرحلة الكشوف الجغرافية والاستعمار.
إذا انتقلنا من التاريخ إلى الجغرافيا، سنجد أنفسنا في عالمنا العربي في منطقة متوسطة جغرافياً، صاغت شخصية معتدلة في تعاملاتها، ومنحها الموقع كذلك انفتاحاً على العالم بأكمله. رسّخ هذا الانفتاح شهرة شعوب المنطقة بالعمل في التجارة ولعبهم لأدوار رئيسية على طريق الحرير وفي ملاحة العالم القديم.
تخبرنا الرحلات الاستكشافية التي قام بها بعض العرب، وكتب الرحلات التراثية القديمة، أن الرحالة العربي لم ينظر إلى الآخرين بوصفهم آخرين ينبغي التعامل معهم من أعلى أو دراستهم من منطلق التفوق العرقي. لقد كانت نظرة رحالتنا دائماً أدبية ممزوجة بحس جمالي وأحياناً حكائي يفتش عن الغريب والعجيب لدى الشعوب البعيدة ليصيغه في حكاية يقصها على أصدقائه في أوقات السمر لدى عودته، ولم يؤسس العرب علوماً تدرس الآخرين بمشرط التحليل أو تضعهم في مختبرات لا إنسانية كما حدث في علمي «الاستشراق» و«الأنثربولوجيا».
داخل هذه السردية وبعيداً عن خطوطها العامة هناك قصص ومحطات ينبغي التوقف عندها، نحن نعلم مثلاً أن فردريك الثاني ملك صقلية أرسل إلى الخليفة الموحدي عبد الواحد الرشيد أسئلة فلسفية أجاب عنها المفكر والصوفي عبد الحق بن سبعين، ونعلم أيضاً أن الجغرافي المسلم الإدريسي رسم لملك صقلية روجر الثاني خريطة الأرض. هذا التفاعل الحضاري نتج عن قرب صقلية من الجغرافية العربية، فضلاً عن تواجد العرب فيها بكثرة، أي أن العرب خلال نهوضهم الحضاري لم يعيشوا التسامح وحسب بل صدّروه إلى الآخرين.
لقد كنا في فترات عديدة صناعاً للتسامح، وبإمكاننا أن نصنعه ونصدّره مرة أخرى من خلال قراءة تاريخنا جيداَ، ومشاركتنا في قضايا ومشاكل العالم بوصفنا شركاء في الحضارة.

أخبار ذات صلة

0 تعليق