«الطيور المهاجرة».. معزوفة سردية على خطى موزارت - ستاد العرب

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

الناشر: دار روايات
================
لعل أكثر ما يميز الرواية المعاصرة ذلك التنوع الكبير في أشكال وأنواع وأساليب السرد وتياراته ومدارسه، حيث إن كل مؤلف صار لا يكتفي بالإجادة فقط، بل بوضع بصمة خاصة تميزه عن غيره، أسلوبية تعرف به منذ الوهلة الأولى للقراءة، وهناك الكثير من التجارب التي تحمل مثل تلك الخصوصية لكتّاب ومؤلفين رسخوا في مشهد الرواية العالمية وكذلك القصة بأنواعها المختلفة.

كتاب «الطيور البنية المهاجرة»، للكاتب الصيني غِيْ فِيّْ، الذي صدر في نسخته العربية عن دار روايات عام 2023، بترجمة: يارا المصري، هو عبارة عن مجموعة سردية، ما بين رواية قصيرة، ونصوص قصصية تتسم بالقصر بعض الشيء، والكتاب يؤكد البراعة الناتجة عن الأسلوبية الخاصة لفيّْ، في بناء وتأثيث الفضاء السردي، حيث إن طريقته أقرب إلى أسلوبية الموسيقار الألماني الشهير موزارت، الذي يشار إلى أنه كان يبدأ عملية التأليف بكتابة جمل موسيقية متفرقة ومتباعدة سرعان ما تتجمع لتصبح سيمفونية متناسقة غاية في الجمال، وقريب من ذلك يفعل ِ«فيّْ»، فهو في كثير من الكتابات يبدأ بتدوين مشاهدات ورؤى وأفكار متفرقة تقترب رويدا رويدا من بعضها بعضا لتكون نهراً من السرد الهادر، تحتل فيه الموسيقى موقعاً أساسياً، سواء على مستوى الرواية أو القصة.
المجموعة السردية تقع في 169 صفحة، وتضم مقدمة بعنوان «غِيْ فِيّْ... الكتابة والحرية المطلقة، ورواية قصيرة باسم الطيور البنية المهاجرة، وهي التي أخذ منها اسم الكتاب، إضافة إلى أربعة نصوص قصصية أخرى هي: ذكرى السيد وويو، والقارب الضائع، وتشينغ هوانغ... الأصفر المائل إلى الخضرة، وسي مطرز، وتشير ترجمة الكتاب، إلى أن هذه النصوص جديرة بالدرس، حيث تنتظمها تجريبيّة عالية، ويأتي الاهتمامٌ بالزّمن بوصفه عنصراً أساسياً في القَصّ، إذ يهتمّ فيّْ بالزمن في قصصه القصيرة ليرصد الإنسان المحاصَرً بنفسه وأحلامه وأحداث حياته، وبُعده المكاني وذاكرته، وكتابته حين تكون تجليّاً للزمن الإبداعي، الذي وإن كان إنشاءً في اللغة، فإنَّه يكشف عمَّا نريده ونحبه في الأدب، وهو ما يقوله الكاتب في إحدى مقابلاته: نتحدث في العادة عن الأبعادِ المكانيةِ الثلاثة، بالإضافةِ إلى بُعدٍ زمني واحد، إذاً هي أربعةُ أبعاد. كانت ثمة فكرة تراودني لفترة طويلة، وهي أنَّ البُعدَ الأرجحَ الذي يمنحنا مغزىً هو البعدُ الزمني، ولا أعني بذلك أنَّ البُعد المكاني لا أهمية له، بالطبع له أهمية، لأننا في حالةٍ مستمرة من الانتصارِ على الطبيعة، في حالة مستمرة من ابتكارِ الأشياء، وفي حالة مستمرة من إطالةِ بقائنا. لذا، في حدود كهذه، فإنّ كل هذه الجهود هي تغيّرات زمنية.

ألبوم


هذا الاهتمام بالبعد الزمني في الكتاب يبدو جلياً بشدة، وكأن هذا العمل السردي بتعدد أنماطه من رواية وقص طويل وقصير هو بمثابة ألبوم يحفظ حشد من الصور والتفاصيل والمشهديات والأحداث، تلك الوقائع التي يكون أبطالها من الأشخاص العاديين، الذين هم في الحقيقة أبطال الحياة اليومية، العامل والموظف وربة المنزل والعابر والذي يجلس على المقهى يقلب صفحات الجريدة ودفاتر الذكريات، فهذا توثيق زمني نادر وكأن الكاتب يقوم هنا بوظيفة المصور الحاذق الذي يجيد الالتقاط ويشرك معه فيض من العواطف والمشاعر في تلك العملية، فالصورة هي محاولة إبداعية لتثبيت الزمن الذي يمضي كموج هادر يخلف وراءه بقايا ورماد الأشياء الدالة عليه وعلى آثاره التي يتركها في الحياة ووجوه البشر والطبيعة من حولنا.
النصوص السردية في الكتاب منسوجة من قماشة المشاهدة والملاحظة اليومية للكاتب، استطاع عبرها أن يطرز ثوباً سردياً قشيباً وممتعاً ومتعدد الألوان والروائح، فتلك الصور التي يلتقطها الكاتب حية بحيث يشعر القارئ بكل تفاصيلها ومشاعرها، وهنا تكمن براعة هذا المؤلف الذي يورط المتلقي مع تلك الحكايات المتقنة التي تقف وراءها حكمة وفلسفة ورؤى حول الحياة الوجود، يسربها الكاتب بطريقة غير فجة بحيث يستقبلها القارئ بكل حب ليمارس معها فعل التعاطي والنقاش، فإلى جانب تلك الجماليات السردية، هناك المعنى الذي يمتلك قيمة خاصة في كتابات فيّْ، وهي تبدو حالة نادرة ذلك الجمع بين المعاني والأفكار والأبعاد الجمالية عبر التوظيف الجيد لأدوات وأساليب السرد.
*أسلوبية
النصوص السردية في الرواية قد تبدو غائمة وغامضة بعض الشيء، لذلك فهي لا تحتاج إلى قارئ ذكي وشديد التركيز فقط، بل عليه أيضاً أن يكون مفعماً بالمشاعر والروحانيات ويجيد الالتقاط لكل تفصيلة مهما كانت صغيرة، فالسرد يعتمد بقوة على الوصف، وتناول الوقائع الزمانية والمكانية، وتعتمد طريقة المؤلف على صناعة الصور إلى حد سيولة اللغة، وهي أقرب إلى طريقة صناعة السينما والأفلام منها إلى الكتابة الروائية والقصصية، بحيث تبدو الحكاية كتجميع للقطات ومشهديات من أزمنة متداخلة بطريقة معقدة ومركبة، فالزمن، إلى جانب المكان، هو القضية المركزية في الحكاية، أكثر من أي شيء آخر، لذلك يعتمد المؤلف بقوة على الوصف من أجل جعل المتلقي يفهم رسالة النص ومعانيه، وتأتي هذه الحالة الوصفية بكل جمالياتها من تنقلات في الأزمنة والأمكنة، بحيث تجعل القارئ محلقاً بخياله في عوالم يصنعها ذلك الوصف، تلك الحافلة بالغرائب والعجائب، فالنصوص تهتم كثيراً ـ بوصفها شرقية ـ بالتفاصيل الخرافية والأسطورية، فيجد المتلقي نفسه أمام وليمة سردية متكاملة توفر الأبعاد الجمالية المتمثلة في الوصف ومتعته المدهشة، و يستمتع بذلك الانسجام بين الطبيعة والمشاعر.

الطليعة
النصوص في الكتاب تنتمي إلى تيار أدب الطليعة الذي أسس لواقع إبداعي جديد في الصين منذ سبعينيات القرن الماضي، ومن سمات ذلك الأدب الاهتمام بالإنسان والطبيعة والعلاقة الجدلية بينهما، ويعتد السرد على الوصف المسهب المشبع بالخلفيات الثقافية والفكرية والتاريخية، ويتسم كذلك بنوع من الغموض، وهو ناتج من غموض العالم نفسه، بحيث أن الحكايات والقصص هي محاكاة مبدعة لما يجري في الطبيعة، وذلك الأمر يتضح بشكل جلي في نصوص هذا الكتاب الذي يعد حقيقة صورة نموذجية لأدب الطليعة.
* قلق وهواجس
لعل خير مثال على أفكار أدب الطليعة هو نص (الطيور البنية المهاجرة)، الذي أخذ منه عنوان المجموعة والكتاب، حيث يعتقد العديد من النقاد أن هذه الرواية القصيرة تعكس روح التجريب والتجديد الذي وصلت إليه الكتابة الإبداعية في الصين، وتروي القصة مشاهد من حياة مؤلف يقدم له الناشر فرصة للتفرغ لإنهاء روايته في مكان هادئ، وخلال فترة كتابته للرواية تدور أحداث الحكاية التي تقوم على شعور البطل بالقلق والهواجس والهلوسة وانتظار مشاهدة سرب من الطيور البنية يمر من أمام نافذته ليذكره بالزمن، وتظهر شخصيات أخرى في القصة، لكن القارئ يكتشف أنه أصبح مثل البطل لا يعرف ما إذا كانت حقيقية أم خيالية، هذا التشظي والشعور بالغموض والغرابة يكاد يكون هو القاسم المشترك بين الأعمال التي قاربت تيار أدب الطليعة في الصين.
* اقتباسات
إن لم تكن ذاكرتي معطوبة، فلابد أن ثمة انحرافاً في الزمن.
الدم علامة الإصابة والطيور المهاجرة علامة تغيير الفصول.
كأن خيوط ذاكرتي أُلصقت بصمغ غريب.
عويل الرياح استدعى الليل ليأتي قبل أوانه.
كان العجائز صامتين كالأرض.
جيل الكبار في القرية ظل يقاوم نبش الشباب للماضي.
إعدام إنسان هو مثل ذبح الدجاج.

أخبار ذات صلة

0 تعليق