الحروف.. إيقاعات بصرية تداعب الخيال - ستاد العرب

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

ظل الفنانون على مر التاريخ منطلقين في إبداعهم من أجل التحديث؛ لأن المعنى الحقيقي للإبداع هو الإتيان بالشيء على غير ما عُهد عليه، فهو مناقض للتقليد، رغم أنه قد يكون تقليداً بشيء من التغيير أو التحوير، ومن تلك المنطلقات اشتغل بعض الفنانين المعاصرين على تقديم الخط العربي في قوالب غير معهودة، استلهاماً لجمالياته، وتجسيداً لما تزخر به مخيّلاتهم من رؤى حداثية.
يحتفظ الأصل الفني بوجوده في مخيلة المبدع لما يلمس فيه من خصائص ومميزات؛ تمنحه القدرة على البقاء بين سواه من الفنون، ليظل التمسك به الهاجس الأكبر لهذا الفنان، حيث يعتبر أن الأصيل هو نقطة البدء، والمرتكز الصلب الذي يقف عليه من أجل تقديم أي عمل إبداعي، ولذلك يعمد إلى طرح الأفكار الجديدة مراعياً حدود التّماس بين القديم والحديث، وهو ما نجده في الدورة 11 من ملتقى الشارقة للخط العربي.
يحتضن الملتقى 14 معرضاً معاصراً، تقدم فيها رؤية حداثية للخط العربي، حيث تعبّر الأعمال عما هو قديم بروح جديدة، ويشارك في المعرض الذي يقام في متحف الشارقة للفنون، وأماكن عرض خارجية كلٌّ من: جعفر الحداد من البحرين، وسعيد قحماوي من السعودية، وسعيد دوكينز وليوناردو لونا من المكسيك، وسنيك حوتيب من الجزائر، وصباح أربيلي من المملكة المتحدة، وعبدالله الاستاد من الإمارات، وعقيل أحمد من سوريا، وعمر صفا من لبنان، وكاميلو روجاس من أمريكا - كولومبيا، وكريبتيك من الولايات المتحدة، وماهاجاتي استوديو من سنغافورة، ومهدي سعيدي من إيران - أمريكا، وناصر السالم من السعودية، ويبران غصن من الأرجنتين.

* تفاعل
لأن الإيمان بالقضاء والقدر من أهم أركان الإيمان في الفلسفة الإسلامية؛ هذا القدر المكتوب قبل وجود آدم في «لوح محفوظ»، ونحن نسير في حياتنا، ضمن هذه القدرية، وضمن ما هو في اللوح، فإن الإنسان هو أجلى معاني التجلي، وأبهى صورها، وهذا ما جعل الفنان البحريني جعفر الحداد يقدّم عملاً بعنوان «تجليات داخلية»، وهو عمل تركيبي يهدف لتحويل مفهوم التجلي إلى تجربة حسية ملموسة؛ وروحية، حيث يدخل الزائرون إلى الغرفة، فيواجهون واقعهم، ويحثهم هذا العمل على التفاعل مع ذواتهم وتجاربهم الشخصية إلى أعلى حد، عبر النظر للأعلى باتجاه المرآة، بينما يحيط بهم مجال من الضوء متساوي السطوع.
ويلتزم جعفر في أعماله بصورة ممنهجة، بتجاوز الحدود في بحثه الدؤوب عن فهم علاقة الإنسان بالمكان، حيث يحاول استكشاف عمق علاقة المدينة بأهلها عبر النظر إلى التفاعلات الاجتماعية والديناميكية بين أهالي المدينة وعمرانها ونسيجها الحضري، كما يناقش في أعماله التركيبية علاقة المجتمع بالبحر، من خلال تفاعلات الزمن مع مواد مختلفة.
* مناجاة
في صورته الفوتوغرافية المؤطرة، يعرض الفنان الإماراتي عبدالله علي الاستاد الجُملَ والكلمات بشكل مضغوط، باستخدام أسلوب التجريد الخطّي اللوني، حيث تتكدس الحروف فوق بعضها بعضاً مع تباين ووضوح المفاصل بينها، دون أن تحمل السياقات أياً من علامات الترقيم، ويأخذ التعديل اللوني حيزاً من الفكرة، وجزءاً من القصة، وهي التلاحم وانكماش الذات وقت المناجاة، والصورة الملتقطة من مكة المكرمة لا تعزّز الفكرة فحسب، بل تُعمّق المعنى وتوضح المراد، وتمثل دور علامات الترقيم، كما يسلط العمل الضوء على خاصية التواءات الحروف وانسيابيتها، فرغم تداخلاتها وتكرار الأشكال الحروفية، فإنها تؤسس بعداً بصرياً يُبْنى عليه اللون والمعنى.
لقد كانت أعمال الخطاطين الكلاسيكيين والمجّدين ملهمة للاستاد، فبدأ بالخط الحديث ذي الطابع الفني، ثم أمعن بالكلاسيكية وتأثر بها، ليستنبط قوة الحرف بإظهاره فنّياً بتكنيكات لونية رقمية أحياناً، وفي أحيان أخرى بتركيبات فنية، كما ساعد اهتمامه بالفن والتصميم على ظهور بعض أعماله بطابع تجريدي.
* مرآة
يكتب الفنان الجزائري سنيك حوتيب عبارة: «أنت تراه ثم تؤمن به، ثم يجب أن تؤمن به حتى تراه»، ليضعنا أمام مرآته، فهي انعكاس لأفكاره، وطريق مختصر لفهم فلسفته الفنية، حيث يدعو المشاهد إلى رحلة اكتشاف واسعة لإدراك ما هو غير مرئي، على أن يكون الإيمان بالإبداع قوة للتفسير، فما يقدّمه أكثر من مجرد عمل مرئي؛ إنه دعوة لفهم أعمق لما يدور حولنا، وبوّابة إلى عوالم خفية تنتظر أن يتم فتحها.
بفضل امتلاكه رؤية فنية خاصة، يستطيع حوتيب تحويل المتخيل «الميتافيزيقي» إلى مادة ملموسة، مُعتمداً على مخططات بصرية تؤدي إلى مخطط عام لحساباته الإبداعية، ويستعين في ذلك بالأماكن العامة كقاعدة لأعماله، فيما يمد جسور المعرفة مع السكان المحليين لينقلها إلى المشاهد، كما يجتهد على إثراء جوهر عمله برحلات واسعة، وملاحظات حول الظواهر الاجتماعية والثقافية والأيديولوجية المعاصرة، وتتجلى هذه الخبرات والتجارب الإنسانية، بتحويلها إلى أعمال فنية تأتي بين الضربات الحرة المستقيمة الثاقبة والمنحنيات الباذخة.
إن لغة حوتيب البصرية عبارة عن مزيج من الأفكار التي جمعها طوال أبحاثه، حيث تتألف مجموعة رسائله من الخط العربي، والنصوص اللاتينية القديمة، والبقايا المصرية الديموطيقية والهيراطيقية.
* مُسودة أولى
يقدّم الفنان السوري عقيل أحمد ثلاثة أعمال فنية معدنية، ترتكز على اجتهاده من خلال الشكل واللون والقالب العام للعمل، وذلك في سبيل البحث عن حالة معينة أثناء الإسراع في الكتابة، وتحديد حروفها، فهو يسعى إلى تحويل مفهوم اللغة لمفهوم بصري شكلي، يبتعد عن الحالة الإنشائية، فالمسودة بالنسبة له هي الرقم الأول المباشر بكلّ صفائه، بعيداً عن التصنع، لأنها مرتبطة بالعاطفة المباشرة، وبعد الانتهاء منها ينتقل الكاتب أو الخطاط لتنفيذ عمله المملوء بالتكلف والتنسيق، حيث يتدخل العقل للقيام بعملية التنفيذ مستنداً إلى المسودة الأولى.
ومن هنا جاءت فكرة أعمال عقيل حول المسودة الأولى، التي يحولها لتصبح عملاً فنياً، باحثاً عن سبيل لتحقيق التوازن بين السيطرة والعفوية المطلقة، ساعياً إلى تكوين صورة مفعمة بالحركة وعدم الاستقرار، إلا أنها متوازنة بصرياً، فجاءت تلك الأعمال معبرة عن حالة الإنسان المعاصر وانفعالاته، بناء على مفردات العصر الحالي المتمثلة في القلق الدائم تجاه كل قراراته وأفكاره، حيث تحوّل هذا الإنسان إلى مسودات ورقم في غبار هذا الكون العظيم.

أخبار ذات صلة

0 تعليق