القاهرة: الخليج
الفيزياء فرع من العلوم، لكنّ ثمة جانباً يجعل فلسفة الفيزياء، ليست جزءاً من فلسفة العلوم فحسب، فعادة ما يقف فيلسوف العلوم على مسافة بعيدة قليلاً من العلم، ويدرس ممارسته بصفته غير متخصص، وإنما مهتم، مركزاً اهتمامه على المنهج العلمي بوجه عام، وكذلك الأسئلة العامة بشأن الموثوقية والقيمة في منتج العلوم.
غير أن فلاسفة الفيزياء يهتمون في المعتاد بأسئلة أكثر تحديداً، ليست عن العلوم بوجه عام، ولا عن الفيزياء، بل أسئلة تتعلق بالمفاهيم التي تطرحها نظريات فيزيائية بعينها، ومنها على سبيل المثال: ما الذي تخبرنا به نظرية النسبية العامة عن المكان والزمان، كيف ينبغي لنا فهم القانون الثاني للديناميكا الحرارية، أيوجد خطأ جوهري في نظرية الكم؟، ورغم أنهم لم يتحفظوا في انتقاد مناهج علماء الفيزياء في حالات معينة فإنهم في الوقت نفسه لم يركزوا على المزيد من الأسئلة العامة بشأن منهجية الفيزياء.
في هذا الصدد صدر في سلسلة «مقدمة قصيرة جداً» كتاب ديفيد والاس وعنوانه «فلسفة علم الفيزياء» (ترجمة إبراهيم سند أحمد)، وفي تقديمه يقول، إن كتابات أرسطو تتضمن من الرياضيات والعلوم بقدر ما تتضمّن من علم الأخلاق وعلم الجمال، وقد وصف نيوتن عمله بأنه فلسفة، وقارنه بفلسفات منافسيه، فالفيزياء لم تبدأ في إرساء قواعدها، باعتبارها علماً قائماً بذاته، والانفصال عن الفلسفة لم يكن إلا في وقت حديث نسبياً.
ليست الفيزياء أول العلوم التي انفصلت عن الفلسفة ولا آخرها، فكثيراً ما يقال إن الفلسفة لا تحرز تقدماً، لكن نشأة العلوم المستقلة هي إلى حد كبير ما يمثل تقدّم الفلسفة، فقد نشأت الرياضيات في العصور القديمة، والفيزياء في عصر النهضة، والأحياء بعد داروين، والمنطق في أوائل القرن العشرين، وعلوم الكمبيوتر في أواسط القرن العشرين، والعلوم الإدراكية أخيراً.
أدى كل من هذه الحالات إلى إحراز تقدم كبير، وحلّ العديد من المسائل الجدلية، واتضاح العديد من الأمور الغامضة، ما أدى إلى تشكيل علم قائم بذاته وقادر على إحراز تقدم أكبر، يعرّف الفيلسوف دانييل دينيت الفلسفة بأنها ما نفعله عندما لا نعرف الأسئلة التي ينبغي طرحها، وعندما نفهم ما يكفي لأن نتمكن من طرح الأسئلة والبدء في الإجابة عنها، يتمخض علم جديد من رحم الفلسفة.
استقلال
في المجالات التي شهدت حدوث هذا مؤخراً – العلوم الإدراكية أو المنطق على سبيل المثال – لم تزل العلوم والفلسفة تخصصات متشابكة، غير أن الفيزياء كان لديها قرون ثلاثة لتكتسب استقلالها، والآن قد تحقق استقلالها عن الفلسفة بشكل كلي تقريباً، فقليل من علماء الفيزياء الذين يحظون بالتدريب المهني هم من يتعلمون قدراً كبيراً من الفلسفة، وقليل من الفلاسفة هم من يعرفون ما هو أكثر من أساسيات الفيزياء، فكيف يتبقى إذن فلسفة للفيزياء؟
السبب الأوضح والأبسط –كما يشير الكتاب– هو أنه على الرغم من أن الأسس المفاهيمية للفيزياء صارت أكثر وضوحاً بكثير مما كانت عليه قبل عصر نيوتن، فلا يزال هناك الكثير مما لا نفهمه، فليست الفيزياء حسابات غير مبررة، بل إن عالم الفيزياء الحصيف يكون على دراية بالمفارقات والأسئلة المفاهيمية التي تظهر في عمله.
السبب الثاني هو أن مناهج العلوم والتوجهات التي ينبغي أن يتخذها العلماء والفلاسفة والناس بوجه عام بشأن المناهج من الأمور المهمة، ولا يمكن فهم هذه أو تلك في حالة الجهل بالتفاصيل، ففي أفضل الحالات تتكون لدينا نظرة قاصرة عن المنهج العلمي، وعن التوجه الذي ينبغي أن نتخذه تجاه النظريات العلمية إذا اكتفينا بدراستها دراسة مجردة، ومن ثم تتمثل إحدى المسؤوليات المهمة لفيلسوف الفيزياء في فحص النتائج والعمليات الفيزيائية ومعرفة الدروس التي تعلمنا إياها هذه العمليات بشأن العلوم بوجه عام.
يوضح الكتاب أن المهمة الثالثة لفيلسوف الفيزياء متصلة بعلم الفيزياء، لكن بمعنى مختلف، وهي التوصل إلى الفهم الأمثل لطبيعة العالم، بناء على النظريات الفيزيائية التي نستخدمها لوصفه، في العصور القديمة كان فهم الطبيعة العميقة للعالم منوطاً بالميتافيزيقا، أما في العصور الحديثة فقد صار هذا الفهم يعتمد بشكل أساسي على أفضل النظريات الفيزيائية، غير أن هذه النظريات لا تفصح من تلقاء نفسها عما تنطوي عليه من دلالات ومعانٍ.
من هذا المنطلق فإن فلسفة الفيزياء هي الجسر بين الميتافيزيقي والفيزيائي، أو يمكن القول، إن فلسفة الفيزياء تعلمنا كيفية التوصل إلى إنتاج ميتافيزيقي يستند إلى المعرفة العلمية، ومن الأفكار التي تتكرر بكثرة في هذا الكتاب أن فلسفة الفيزياء علم متداخل التخصصات، فهي تقف بين الفيزياء البحتة والفلسفة السائدة والفلسفة العامة للعلوم وهي تصل الأفكار والرؤى بين هذه التخصصات.
0 تعليق