الشارقة: علاء الدين محمود
الناشر: دار روايات
هناك العديد من الروايات التي اتخذت موقفاً تأملياً من الحياة، رصدت الواقع اليومي في متغيراته وتحولاته، وبالتالي تقلبات البشر أنفسهم ومواقفهم المختلفة والمتعددة خاصة في ظل الأحداث الكبيرة والمنعطفات المؤثرة التي تظل ملازمة للذاكرة مدى الحياة، حيث يصبح السرد في هذه الحالة ليس مجرد توثيق فقط، بل شاهد على أثر الأحداث الجسام في حياة البشر.
رواية «أطفال الإمبراطور»، للكاتبة الأمريكية من أصل جزائري كلير مسعود، التي صدرت في نسختها العربية عن دار روايات في طبعتها الأولى عام 2020، بترجمة: سلمى وعمرو، هي من الأعمال السردية التي تحمل بداخلها صوراً من الحياة، واتسمت بعمق في تحليل الشخصيات الأمريكية خاصة في مدينة نيويورك، وأهدافها وطموحها والتنافس من أجل إثبات الذات، كما أن العمل يهتم كذلك بتناول المجتمع بصورة عميقة ورصد التحولات والمتغيرات وأثرها في الأفراد، ومن خلال ذلك ترسم الرواية لوحات متعددة نابضة بالحياة وتحمل دعوة للتأمل والتفكير في المصائر والتدبر في الأحداث التي تؤثر في حياة البشر، ولا يخلو العمل من الروح النقدية القوية والساخرة.
* واقعة
الرواية تتناول بصورة مركزية واقع البشر في الولايات المتحدة الأمريكية قبل وعقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، لكنها لا تتحدث عن الواقعة نفسها بل أثرها العميق في حياة الناس، وكيف كانت صورة المجتمع قبيل تلك الأحداث، وكيف كانت تمضي الحياة، والمؤلفة تتناول تلك العوالم بشكل عميق ومستبصر، بحيث إنها تنظر إلى الحدث وما وراءه بصورة تفكيكية تنفذ إلى ما وراء الأشياء، وتكشف عن ما لا يأتي أحد على ذكره.
وقد اعتبرت هذه الراوية من أفضل الأعمال الروائية التي تحدثت عن هجمات سبتمبر، فهي تخاطب الأمريكيين في الداخل، حيث جسدت الكاتبة حياة الطبقة المثقفة، من خلال تقديم صورة شخصية لثلاثة أصدقاء، تعود صداقتهم إلى أيام الدراسة الجامعية، وهم في الرواية، في الثلاثين من أعمارهم، حيث تقارب الكاتبة في العمل مجريات الأشهر القليلة التي سبقت هجمات سبتمبر، فهناك مارينا التي تعيش في ظل أبيها الصحفي الناجح، وهناك دانييل التي تفوق مارينا في الذكاء وتتسم بكونها لمّاحة لكنها تقل عنها في الجسارة والجرأة والتي تدخل في صلات وعلاقات معقدة مع عائلة مارينا، وهناك جوليوس الناقد الأدبي الذي يميل إلى تخريب ذاته، وعلى هوامش هذه المجموعة من الأصدقاء هناك بوتي ابن عم مارينا، الذي يصل من الأقاليم مفعماً بالآمال، ويقدم بعضاً من أكثر لحظات الرواية إثارة للشعور بالصدمة، وبحلول شهر سبتمبر من ذلك العام تجد شخصيات الرواية نفسها في مواقف ما كان بوسعها أن تتنبأ بها قط.
* مسار
وتتابع الرواية مسار هؤلاء الأصدقاء الذين يتميزون بالطموح والتحدي والأمل في غد أفضل بالنسبة لهم، حيث يبحث كل منهم، بطرق مختلفة، عن الشهرة والحب والإثارة، وكلهم حريص بصورة يائسة على ألا يؤخذ على أنه «شخص عادي»، حيث إن كل واحد يبحث لنفسه عن مكانة مرموقة في مجال تخصصه، إذ إن أبطال العمل الثلاثة، يحاولون التوصل إلى إجابات عن الأسئلة الأكثر أهمية التي تؤرقهم وهم يسكنون هوامش عالم الأدب والإعلام والفنون، ويعملون على حل معادلة الحياة ما بين تحقيق النجاح والتقيد بالأخلاق والقيم.
* تحولات
تلك هي الحياة التي كان يعيشها هؤلاء الشباب في مرحلة معينة من أعمارهم قبل أن تباغتهم واقعة أحداث سبتمبر التي لا شك أن لها وقعاً كبيراً في نفوسهم، بحيث إن هناك تحولات كبيرة وعميقة حدثت في شخصياتهم، وذلك هو المعنى الكامن في السرد، والذي يتوصل إليه القارئ عبر تتبع مسار الأحداث ليخلص إلى رؤية الكاتبة في كيف أن تلك الأحداث والوقائع الكبيرة تحمل تأثيراً على مستوى التفكير والنظر للحياة وللآخر.
* أسلوب ومقاربات
استطاعت الكاتبة أن تنجز بالفعل رواية ملحمية في اشتباكها المباشر مع الواقع، مستخدمة العديد من التقنيات والأساليب السردية، وحرصت على أن تكون اللغة مباشرة، بحيث تشرك القارئ في طرحها الفكري الذي لم يكن خصماً على الإطلاق للأبعاد الجمالية في العمل المتميز الذي عُدّ من القطع السردية المهمة، حيث استطاعت المؤلفة أن تنسج حبكة مقنعة ومثيرة وممتعة وذكية، و برعت في رسم الشخصيات الرئيسية والهامشية، ليتابع القارئ بلهفة مصير هؤلاء الأبطال ومسيرتهم من خلال يومياتهم وما يتميزون به من قلق وطموح وادعاءات، ويبرز السرد مكامن الضعف والقوة والأوهام والخوف في هذه الشخصيات.
* كوميديا
عملت الكاتبة على توظيف الكوميديا القاتمة ببراعة، حيث كانت السخرية هي نقطة القوة في السرد، وتكشف عن مكامن الخلل والتناقضات في شخصية أبطال العمل واصطدام طموحهم بالواقع والأحداث الكبيرة في عالم تلفه الفوضى ويكاد أن يسكن فيه الخراب، ولعل اللافت في أسلوبية الكاتبة ذلك التنقل البديع بين الكوميديا والتراجيديا في المواقف الحياتية لأبطال العمل، وكذلك في واقع الحياة اليومية، ولعل توظيف السخرية من قبل المؤلفة كان من أجل تمرير رؤيتها الفكرية وخلاصة تأملها في المجتمع الأمريكي، وكذلك من أجل تمرير العوالم والمواقف الثقيلة والصعبة في الرواية.
* صدى
العمل وجد صدى كبيراً، خاصة داخل أمريكا، ووصلت الرواية إلى القائمة الطويلة لجائزة «مان بوكر الدولية» عام 2006، واهتمت بها الصحف والمجلات، حيث تشير مجلة «يو إس أيه تودي»، إلى أن العمل ممتع حيث تسود الشخصيات فوارق آسرة، إذ تسخر الكاتبة وتتحدى مفاهيم المجتمع الجاهزة حول الثقافة الطبقية والحراك الاجتماعي، أما «وول ستريت»، فقد ذكرت أن مسعود قد ألفت كوميديا أخلاقية، وهجاء للصحافة والطموح المغلوط، ودراما مقتضبة حول الحياة الحضرية المرتبكة، وترى مجلة «فيلج فويس»، في هذه الرواية عملاً مؤثر يدور حول طموحات متصادمة، وكذلك ولاءات متصارعة وعلاقات حب وكراهية في ما الشخصيات تمضي نحو ذلك اليوم الرهيب من أيام سبتمبر.
أما الكاتبة نفسها فهي قد تحدثت عن روايتها مشيرة إلى أنها تدور حول ما يعنيه أن يعيش المرء في مكان معين في وقت بذاته، وتحكي عن مجموعة من الناس لهم طموحات وتوقعات وضوابط معينة والطريقة التي يتعاملون بها مع ما يجدون أنفسهم حياله.
* إضاءة
كلير مسعود، هي كاتبة أمريكية من أصول جزائرية من مواليد عام 1966، حازت عدداً من الجوائز الأدبية، ومن أهم أعمالها السردية: «المرأة في الطابق العلوي»، و«الفتاة التي تحترق»، وهذه الرواية «أطفال الإمبراطور»، وتهتم في أعمالها بالحياة التي لا تجري وفقاً لما خطط لها، والقصص التي يشكلها الناس لأنفسهم.
* اقتباسات
«لم تكن تحمل أي نية للكشف عن عيوبها المخبأة تحت الأصباغ للغرباء».
«كان كل شيء بالنسبة لها سراباً وكأنها اقتحمت حلم شخص آخر».
«لكم أحب التظاهر بالتمنع».
«عرفت ما عليّ تعلّمه فتركت فمي مُغلقاً وأنصتُّ».
«اشتغلت حتى صنعت شيئاً من نفسي».
«ليس هناك من يقين أبداً».
«لا طائل من شيء بمجرد الانغماس في هذا العالم».
«نحن لا نتفق على كل شيء».
«لا يعني ألا نتلقى أجراً في القراءة أنها ليست عملاً».
«أحست أنها اخترقت بحراً من النور».
«العظماء يمتلكون أقصر السير».
0 تعليق