الشارقة: علاء الدين محمود
في ثاني عروض النسخة الـ 8 من مهرجان الشارقة للمسرح الصحراوي في منطقة الكهيف، شهد جمهور غفير من عشاق «أبو الفنون»، العرض التونسي «قصر الثرى»، لفرقة «فن الضفتين»، تأليف وإخراج حافظ خليفة، وتمثيل: سهام مصدق، وداليا المفتاحي، وصلاح مصدق، وعبد اللطيف بوعلاق، ولطفي الناجح، وهادي بن عبيد، ومحمد بوبكر، ومحمد علي العباسي، ورؤى القلعي، ومجموعة كبيرة من الممثلين والمؤدين.
العرض وجد تفاعلاً كبيراً من الحضور، خاصة أن العمل كان بمثابة دعوة للتمسك بالأرض وعدم تركها أو مغادرتها مهما كانت الأسباب، وأن على الإنسان أن يعمل على تعمير بلاده حتى تزدهر بدلاً عن أن يهجرها وقت الشدة، وتلك هي الرسائل والمعاني التي حملها العرض الذي اتخذ طابعاً ملحمياً بتناوله لحكاية تحتشد بقيم البطولة بلغة شعرية، حيث كان الحوار عبر النصوص والقصائد الشعرية البدوية التونسية، لكنها لم تكن غارقة في اللهجة المحلية؛ حيث استطاع المخرج، وهو نفسه كاتب النص، صناعة توليفة لغوية بين الفصحى ولهجات محلية «لغة بيضاء»، بحيث تكون مفهومة للمتلقي من أجل إيصال مضامين القصة والمراد منها.
وحاول المخرج عدم الوقوع في فخ اجترار الطرق التقليدية في تناول حياة الماضي الصحراوي والقيم المتعلقة بها، خاصة أن العرض يستند إلى حكاية قديمة، وعمل على استعارة كل ما هو موروث ثقافي وتقديمه بصورة إبداعية مبتكرة، وربما هو الأمر الذي نجح فيه كثيراً هذا العرض الذي صنع بالفعل فرجة مختلفة، وخلق تواصلاً جيداً مع الجمهور.
*علامات
ربما من العلامات اللافتة في العرض هو العنوان «قصر الثرى»، والذي حمل دلالات ورمزيات، فهو يشير إلى تلك القصور التي يبنيها ويشيّدها الصغار من الرمل أثناء اللعب واللهو، وتتّسم بكونها لا تبقى وتزول سريعاً كما هو حال كل شيء في هذه الدنيا، فلا شيء باقٍ على حاله من دون أن تطاله يد التغيير، ولا يدوم في هذه الأرض غير الأفعال الحسنة التي تخلد صاحبها، وعلى المرء دائماً أن يحسن فعله وقوله، وأن يتحلى بالقيم والأخلاق الحميدة، وتلك هي دلالة العنوان التي هي جزء من رسالة العمل الداعي للتمسك بالخير والحب والجمال.
*قصة شعبية
النص عبارة عن حكاية شعبية بدوية، حدثت في وقت مضى غير معلوم في الجنوب التونسي، حيث الصحراء الممتدة هناك والحياة البدوية في منطقة «الفتيلة»، وكان الجميع في تلك المضارب يعيشون حياة هانئة، يسود بينهم الحب وتحكمهم العادات والتقاليد العربية المستندة إلى قيم الشهامة والكرم والمروءة وإغاثة الملهوف ومد يد العون للمحتاج والذي يلوذ بهم ويلجأ إليهم، وظلوا على تلك الحالة من الوئام سنين عدداً لا يعكر صفوهم شيء.
ولكن لأن دوام الحال من المحال، فإن يد التحولات والمتغيرات قد امتدت لتلك المنطقة، خاصة مع شحّ المياه والجفاف، بعد تعطل البئر التي كانت تمدهم بأسباب العيش؛ حيث إن الماء هو عصب الحياة الأساسي في كل المناطق الصحراوية، وأمام هذا الواقع جرت حوارات كثيرة بين أفراد القبيلة الواحدة التي كانت تفتخر بوحدتها وتعاضد أفرادها، لكن تلك النقاشات أحدثت انقساماً كبيراً، وتشظت القبيلة إلى فريقين، بسبب ما أدى إليه الحوار من موقفين، هما البقاء في المنطقة أو الرحيل عنها، من دون التوصل إلى حل وسط.
وبالفعل جهز أفراد المجموعة التي اختارت الرحيل عن «الفتيلة»، لسفر طويل بحثاً عن الكلأ والماء في الصحراء الممتدة، وعلى الرغم من خيارهم هذا، فإن روح المحبة والعلاقات المتينة لم تتبدَّ حتى في لحظات الخلاف تلك، فقد تربّى الفريقان على المروءة والشهامة والتعاضد، فكان الفراق حزيناً وحافلاً بالكثير من الصور والمشهديات، مثل وداع عمار لفتاته ومحبوبته حسنة؛ حيث جمعتهما علاقة منذ زمن الطفولة، وكانا يشيدان معاً قصوراً من الرمال وحبات التراب أثناء لعبهما «قصور الثرى»، وكان عمار هذا من أهم الشخصيات في المنطقة، فقد كان شجاعاً ومقداماً، وجمع الكثير من الفضائل الجيدة، وكذا الحال بالنسبة لمحبوبته حسنة الفتاة الوفية المهذبة، وقد ودع عمار أهل الحي بأن وعدهم بالعودة من أجل إصلاح البئر.
ودام الفراق بين المجموعتين ما يربو على العشرين عاماً، كانت خلالها «الفتيلة»، تعيش حياة الشظف وقلة المياه والموارد، غير أن ذلك لم يُنسِ أفراد القبيلة، أو من تبقى منهم ما تربّوا عليه من قيم وأخلاق، فكانوا يكرمون من يفد إليهم، وتبرز هنا شخصية «الزينة»، وهي امرأة مسنة تقوم بتطبيب الناس من الأمراض، وكانت تلعب دوراً محورياً في رعاية أفراد القبيلة.
وبعد مرور ما يزيد على العشرين عاماً، يجد أفراد من منطقة «الفتيلة»، شخصاً مصاباً مرمياً على الأرض، لا يعرفون من أين جاء، لكنه كان يرتدي ذات رداء أفراد القبيلة، فكان أن ذهبوا به إلى مضاربهم، وقامت الزينة بعلاجه إلى أن استفاق، وتعرف إليهم، وكانت المفاجأة أن هذا الفتاة كان هو عمار ابنهم وفارسهم الذي غادرهم ضمن تلك المجموعة التي فارقتهم طوال تلك السنوات.
*حوارات
كان اللقاء بين عمار وأفراد القبيلة مؤثراً، ودارت حوارية طويلة بينه وبين محبوبته حسنة التي ظلت طوال هذه السنوات في انتظاره، رغم كثرة الخطّاب الذين تقدموا إليها، ولم يخلُ الحديث بين المحبوبين من اللوم، لكون أن عمار ترك الأرض هو ومن معه، لكن الفتى ذكر لها أنهم وعلى الرغم من اختيارهم الرحيل لكن «الفتيلة» لم تغادر قلوبهم، وهو يعود اليوم ليوفي وعده في إصلاح البئر المعطلة، وذلك ما حدث بالفعل، وعادت الحياة مرة أخرى للفتيلة بعد أن رجع إليها الغائبون.
0 تعليق