د. أيمن سمير
«النكسات لا يمكن تجنبها، ولكن الاستسلام لا يمكن القبول به أو التسامح معه، كلنا نسقط أرضاً، ولكن الحكم على شخصيتنا، يكون بسرعة نهوضنا وقيامنا، الخسارة لا تعني أننا انهزمنا، خسرنا هذه المعركة، والحلم الأمريكي يدعوكم لأن تنهضوا، هذه هي قصة أمريكا لأكثر من 240 عاماً»
هذه الكلمات جاءت على لسان الرئيس الأمريكي جو بايدن أثناء اجتماع عقده الحزب الديمقراطي لتجاوز المأزق الذي يعيشه بعد خسارة الانتخابات الأخيرة، وهذا الاجتماع جاء ضمن عشرات الاجتماعات التي يعقدها الديمقراطيون بهدف بحث خطط العودة مرة أخرى للانتصارات في انتخابات التجديد النصفي عام 2026 والانتخابات الرئاسية 2028، وذلك بعد الخسارة التاريخية التي هزت أركان أقدم حزب سياسي في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية والعالم عندما خسر الديمقراطيون كل شيء في انتخابات 5 نوفمبر الماضي بداية من البيت الأبيض، مروراً بالكونجرس بمجلسيه الشيوخ والنواب، وصولاً إلى المحكمة العليا وحكام الولايات، ووصل الفارق في الأصوات لنحو 5 ملايين صوت لصالح ترامب بعد أن فاز الرئيس المنتخب بجميع الولايات المتأرجحة السبع.
رغم الاختلاف في تقييم ما جرى بين صفوف الديمقراطيين إلا أن هناك إجماعاً على أن أخطاء كثيرة وقع فيها الحزب الديمقراطي أسهمت في فوز دونالد ترامب والجمهوريين، وفوزهم كذلك في التصويتين الشعبي وفي المجمع الانتخابي، وكشفت هذه الاجتماعات عن عدم استسلام الديمقراطيين لما جرى، وأن لديهم القناعة الكاملة بإمكانية استعادة روح الانتصارات والفوز مرة جديدة وتحقيق نتائج مبهرة في انتخابات 2026 و2028 من خلال استنساخ «تجربة الرئيس بل كلينتون» الذي فاز بأرقام تاريخية في انتخابات 1992 بعد فوز الجمهوريين في 3 انتخابات رئاسية متتالية في 1980 و1984 و1988.
وبعد فترة من الصمت وتجاوز الصدمة دخل الحزب الديمقراطي الأمريكي بدأت سلسلة من الاجتماعات الصريحة هدفها الوقوف أمام الأسباب الحقيقية التي أدت إلى «الموجة الحمراء» التي اكتسحت الانتخابات الأخيرة، وهناك مجموعة من الأسباب التي كشفها تحليل النتائج الأخيرة، وأغلبيتها تدور حول الاقتصاد والهجرة وقضايا العمال ودعم المصانع بعد أن ثبت أن 68% ممن صوتوا في الانتخابات الأخيرة كان لديهم صورة سلبيه عن أداء الاقتصاد الأمريكي في سنوات بايدن وهاريس خاصة ما يتعلق بالتضخم وارتفاع الأسعار، وهو ما دفع الكثير من الديمقراطيين للمطالبة بعمل «مراجعة شاملة» للأخطاء والخطايا التي أدت لأكبر فشل للحزب خلال العقدين ونصف الأخيرين، فما هي الخلاصات النهائية التي توصل إليها الديمقراطيين حول هزيمتهم المروعة في الانتخابات الأخيرة؟ وما هي الأوراق التي يملكها الحزب الديمقراطي لاستعادة شعبيته من جديد؟ وما هي نقاط الضعف التي ستعمل عليها الأجنحة المختلفة للديمقراطيين ضد ترامب منذ اليوم الأول لدخوله البيت الأبيض في 20 يناير المقبل؟
خطة الإنقاذ
بعد أيام قليلة من الصدمة والصمت بدأ الديمقراطيون في مختلف الولايات التواصل من جديد، وعقدوا جلسات التقييم التي اتسمت بالصراحة والواقعية، واتفقوا على مجموعة من الخيارات المبدئية التي يمكن أن تعيد ثقة الناخب الأمريكي من جديد، وهذه الخيارات هي:
أولاً: معارضة ترامب دائماً
رغم أن الديمقراطيين لا يملكوا الأغلبية في مجلسي الشيوخ والنواب إلا أنهم وضعوا «خطة لعرقلة ومناكفة» أي خطوة، وكل إجراء يقدم عليه الحزب الجمهوري منذ اليوم الأول لدخول ترامب المكتب البيضاوي في 20 يناير المقبل، وتعتمد الخطة على «استغلال نقاط الضعف» التي بدأت تتكشف في إدارة ترامب خاصة ما يتعلق بتثبيت مرشحي الرئيس المنتخب للمناصب الكبرى التي تشترط موافقة الكونجرس، وسوف يستفيد الديمقراطيون من تسليط الإعلام على بعض الشخصيات الجدلية مثل تولسي جابارد مرشحة ترامب لمنصب مدير المخابرات الوطنية، وبيت هيجسيث المرشح لمنصب وزير الدفاع، وإصرار ترامب على ترشيح صهره مسعد بولس لمنصب منسق العلاقات العربية الأمريكية، وصهره الآخر تشارلز كوشنر لمنصب سفير الولايات المتحدة في فرنسا، وترشيح كيمبرلي جيلفويل، الخطيبة السابقة لابنه دونالد جونيور، والمذيعة السابقة في شبكة فوكس نيوز لمنصب سفيرة الولايات المتحدة لدى اليونان
وفي الأبعاد الاقتصادية يستعد الديمقراطيون لانتقادات لاذعة لخطة ترامب في «فرض حواجز جمركية» على الصين وأوربا وكندا والمكسيك، ويقولون إن التضخم لا يمكن أن يتراجع حال فرض ترامب مزيد من الجمارك على الواردات من الخارجية، وأن قيمة هذه التعريفات الجمركية سوف يدفعها المواطن الأمريكي في نهاية المطاف، مع تركيز الديمقراطيين على أن الدائرة القريبة من ترامب من أصحاب المليارات لا يمثلون الشعب الأمريكي، والتدقيق في المصالح التجارية والاقتصادية التي يمكن أن يستفيد منها أصدقاء ترامب مثل إيلون ماسك، وهذه الحملة بدأت من الآن بالهجوم على إيلون ماسك وعلاقته بالصين، وسوف تعتمد خطة الديمقراطيين على إضعاف ترامب منذ اليوم الأول له في ولايته الأخيرة عبر عدد من الاستراتيجيات أبرزها قناعة الديمقراطيين بأن ترامب سوف يتصرف كما هو بسلوكه وكلماته الحادة التي ينتقدها الحزب الديمقراطي، الأمر الذي يعطي فرصة للديمقراطيين لانتقاده مع تقديمهم للبديل السياسي والاقتصادي لما يقوله ترامب، كما يتوقع الديمقراطيون أن تظهر «مشاكل كبيرة وجوهرية» ولها صدى ليس في الولايات المتحدة فقط، بل على المستوى العالمي عندما يبدأ ترامب تطبيق خطته لإعادة المهاجرين غير الشرعيين إلى بلادهم، ويرى الديمقراطيون في هذا الأمر فرصة ذهبيه لاستعادة ملايين الناخبين، لأنه وفق حسابات الحزب الديمقراطي فإن 45% من اللاتينيين الذين صوتوا لترامب سوف يقوم الرئيس المنتخب بترحيل أقارب لهم إلى خارج البلاد، وهو ما سيقود لاستعادة الحزب الديمقراطي الزخم والقوة وسط اللاتينيين من جديد.
ثانياً: الاهتمام بالطبقة العاملة
رغم محاولة البعض إلقاء اللوم في الخسارة الانتخابية الأخيرة على تأخر الرئيس جو بايدن في الانسحاب من الانتخابات لصالح نائبته كامالا هاريس إلا أن الكثير من قادة الديمقراطيين وخاصة السيناتور بيرني ساندر انتقد بشدة برنامج الحزب الديمقراطي، وقال: إنه تجاهل بوضوح أولويات الطبقة العاملة التي ذهبت وصوتت للرئيس ترامب، وربما كان هذا واضح جداً في اهتمام ترامب بالعمال والمصانع خاصة لدى الولايات المتأرجحة وولايات «حزام الصدأ»، لكن الجديد الذي كشفه تحليل نتائج تصويت 5 نوفمبر الماضي أن الكثير من النقابات العمالية التي كانت تصوت تاريخياً للديمقراطيين صوتت لصالح ترامب، وهو أمر غير مسبوق في الانتخابات الأمريكية خلال العقود الخمسة الماضية، ويعود ذلك بحسب الديمقراطيين إلى أن رسالة ترامب للطبقة العاملة التي تشكل 70% من القاعدة الانتخابية كانت واضحة، وأبدى فيها فهماً عميقاً لقضايا العمال والمصانع، بينما كان خطأ الحزب الديمقراطي التركيز فقط على القضايا الثقافية والنخبوية التي تتعلق بالديمقراطية وحقوق الإنسان والهوية الجنسية والإجهاض، كما أن الخطة الاقتصادية التي طرحتها كامالا هاريس تحت عنوان «اقتصاد الفرص» لم تصل رسالتها للقاعدة الانتخابية، وذلك لسبب جوهري لأن الناخب كان ينظر لهاريس باعتبارها شريكة أساسية مع بايدن في الواقع الاقتصادي، وهو واقع رفضه أغلبية الناخبين بما فيهم الكثير من الديمقراطيين الذين صوتوا لهاريس، ولكل هذا سوف يركز الديمقراطيون في الفترة المقبلة في انتخابات التجديد النصفي في نوفمبر 2026 على إقناع «الطبقة الوسطى» والعمال بأن الحزب الديمقراطي يفهم ويتفهم ما يعانوه، وأنه جاهز بالفعل لمساعدتهم على تحسين أوضاعهم، ووقتها سوف يقال من جديد إن الحزب الديمقراطي هو «حزب العمال والطبقة الوسطى»
ثالثاً: عدم ترشيح امرأة
أعطى الحزب الديمقراطي الفرصة 3 مرات لكي تفوز المرأة بالمنصب الأول في الولايات المتحدة الأمريكية، أولاً عندما انتخب هيلاري كلينتون لتنافس دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية في نوفمبر عام 2016، وفي انتخابات نوفمبر 2020 اختار الديمقراطيين كامالا هاريس كنائبة للرئيس بهدف إعدادها جيداً لتولي الرئاسة، وفي انتخابات 5 نوفمبر الماضي فعل الديمقراطيون كل شيء من أجل فوز كامالا هاريس، لهذا ينصب تفكير أغلبية الديمقراطيين على البحث عن رجل وليس امرأة يمثلهم في الانتخابات المقبلة في ظل الكثير من المؤشرات التي قالت بوضوح: إن المجتمع الأمريكي وخاصة السود واللاتينيين غير جاهزين لتولى امرأة منصب الرئيس، ورغم مرارة هذا القرار إلا أن الكثير من الديمقراطيين باتوا يصرحون بهذا علناً رغم وجود وجوه نسائية فاعلة وناجحة مثل ويتمر جريتشن حاكمة ولاية ميتشجان، والسيناتورة التقدمية إليزابيث وارن.
رابعاً: التصويت المتحرك
تعلم الديمقراطيون درساً لا يمكن نسيانه في الانتخابات الأخيرة، وهو أنه لا شيء ثابت في السياسة، ولا يمكن التعويل على أن هذه المجموعة أو تلك كانت تصوت تاريخياً للديمقراطيين، ويناقش الديمقراطيين كيفية «تجديد العقد الانتخابي» في «كل» انتخابات مع جميع الفئات والأقليات دون الافتراض بأن هذه المجموعة أو تلك تدعم بشكل تلقائي الديمقراطيين، فرغم أن النساء والسود واللاتينيين يدعمون الديمقراطيين منذ قوانين الحريات المدنية في ستينيات القرن الماضي إلا أن تحليل نتائج الانتخابات الأخيرة كشف أنه لا شيء مضمون، وكان يجب على الديمقراطيين عدم افتراض أن الناخب الأسود واللاتيني سوف يصوت تلقائياً لهم، فالأرقام تؤكد أن ترامب فاز لأنه نجح في بناء تحالف متعدد الأعراق بعد أن دعمه 46% من الأمريكيين ذوي الأصول اللاتينية، و39.5% من الآسيويين، و22% من الرجال السود، نفس الأمر يتعلق بناخبي المدن وخاصة المدن الكبيرة، فالاعتقاد القديم لدى الديمقراطيين كان يقول بأن ناخبي المدن والمدن الكبيرة يصوتون دائماً لصالح الديمقراطيين، لكن هذا الأمر تغير في الانتخابات الأخيرة حيث فاز ترامب بأغلبية المدن في الولايات المتأرجحة بما فيها المدن الكبيرة مثل مدينة فيلادليفيا العملاقة في ولاية بنسلفانيا.
خامساً: الاعتدال والوسطية
هناك اتفاق بين مختلف التيارات التي يتشكل منها الحزب الديمقراطي على أن المبالغة في اتجاه الحزب ناحية اليسار دفع الناخب الأمريكي لتصديق خطاب ترامب الذي كان يقول فيه إن الحزب الديمقراطي ما هو إلا مجموعة من اليساريين والشيوعيين الذين يأخذون أمريكا إلى المجهول، ولذلك كل الدعوات والنقاشات وتقديرات الموقف تقول: إن الحزب الديمقراطي يجب أن يعود إلى قواعده الانتخابية المعروفة دون نسيان القضايا التقدمية، فما زال التقدميون يشكلون نسبة كبيرة من جمهور الحزب الديمقراطي، وأن التوازن بين «الأجندة الوسطية» و«الأجندة التقدمية» ليس مستحيلاً بشرط صياغتها في رسالة انتخابية واضحة للناخب الأمريكي
سادساً: سيناريو « 2028»
يجمع أغلبية الديمقراطيين على عدم التعجل في تسمية مرشح لقيادة الديمقراطيين في انتخابات 2028، ويتفقون على أن سيناريو بيل كلينتون عام 1992 هو الأفضل للديمقراطيين، لأنه عندما خسر الحزب الديمقراطي للمرة الثالثة على التوالي عام 1988 بعد عامي 1980 و1984 لم يكن وقتها أحد يعرف بيل كلينتون، لكن طبيعة التفاعل السياسي داخل الحزب الديمقراطي هي التي أفرزت مرشحين لديهم القدرة على الفوز بالرئاسة أمثال بيل كلينتون الذي أنهى سلسلة من الفوز الجمهوري بثلاث ولايات متتالية، ولايتين للرئيس رونالد ريجان، وولاية للرئيس جورج بوش الأب، ويعود التخوف الديمقراطي في هذا الأمر إلى خشية البعض أن تركيز الأضواء على شخصية في الوقت الحالي ربما يحرم الديمقراطيين من مرشح قادم بقوة من «الخطوط الخلفية» يمكنه أن ينتشل الديمقراطيين من عثراتهم
سابعاً: الجيل الأصغر
أولى الانتقادات ناقشها الحزب الديمقراطي بعد هزيمة 5 نوفمبر الماضي أنه اعتمد خلال السنوات الأخيرة على مرشحين متقدمين في السن مثل الرئيس جو بايدن، ونانسي بيلوسي رئيسية مجلس النواب السابقة، والتي فازت للمرة العشرين بعضوية مجلس النواب في نوفمبر الماضي، وكذلك تشاك شومر الذي كان زعيم الأغلبية في مجلس الشيوخ رغم مشاكله الصحية الكثيرة، وبالرغم من القول الشائع بأن ترامب ليس شاباً، لكن الاتجاه العام داخل الحزب الديمقراطي هو الاعتماد على وجوه شابه مثل جاك شابيرو حاكم ولاية بنسلفانيا، وحكيم جيفريز زعيم الديمقراطيين في مجلس النواب.
ثامناً: العمل على الأرض
كانت النظرة الأولى لاستطلاعات الرأي التي تبشر بتفوق كامالا هاريس والديمقراطيين أنها تعمل ضد ترامب والجمهوريين، خاصة أن ما يسمى ب«الكتلة المتأرجحة» أو المستقلين دائماً ما يتجهوا ناحية المرشح المتقدم في استطلاعات الرأي، لكن ثبت أن هذا كان ضد الديمقراطيين الذين اعتقدوا أنهم في طريقهم للفوز، ورغم وقوع هذه الخطأ في عام 2016، لكن فوز هيلاري كلينتون وقتها بالتصويت الشعبي أبقى على الاهتمام بنتائج استطلاعات الرأي كأحد الدوافع الانتخابية التي يمكن أن تلعب لصالح الديمقراطيين، لكن اكتساح ترامب التصويت الشعبي والتصويت في المجمع الانتخابي دفع الدمقراطيين للتأكيد على العمل وسط الناخبين حتى آخر دقيقة وليس التعويل على نتائج استطلاعات الرأي التي كشفت انتخابات 2016 و2024 أنها لم تكن دقيقة.
الواضح أن خسارة 5 نوفمبر الماضي تركت جرحاً غائراً لدى الديمقراطيين، لكن الأكثر وضوحاً أنهم «أقوى تصميماً وعزماً» على العودة من جديد للبيت الأبيض وللأغلبية في مجلسي الشيوخ والنواب.
0 تعليق