إعداد: محمد كمال
على عكس بدايته الساحرة في عالم السياسة، يترك جاستن ترودو منصب رئيس وزراء كندا مستقيلاً، تحت ضغوط سياسية وأزمات غير مسبوقة، بسبب مجموعة من الملفات بما في ذلك ارتفاع كلفة الغذاء والسكن، والخلافات حول طريقة التعامل مع خطط التعريفة الجمركية المنتظرة للرئيس الأمريكي المنتخب دونالد على السلع الكندية.
وكانت الكلمات العاطفية حاضرة في خطاب الاستقالة الذي ألقاه ترودو، لتأتي ضمن سياق مسيرة تصلح لأن تكون مادة للدراما السياسية، بعد أن حمل اللواء من والده بيير إليوت ترودو الذي كان يتمتع بشعبية كبيرة، بل والسياسي الوحيد الذي شغل منصب رئيس الوزراء أربع فترات في كندا.
وعند النظر إلى اللحظة التي يمكن البدء منها سرد قصة ترودو، فقد ظهر عام 2015 على الساحة الدولية كزعيم شاب منتخب حديثاً لكندا، ثم أمضى العقد التالي في بناء علامة تتمحور حول كونه مناصراً لحقوق المرأة والبيئة واللاجئين والسكان الأصليين، متبعاً نفس رسالة التغيير التي اتبعها الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما.
وفي حين أنه حظي بتعليقات المديح في وسائل الإعلام، فإن شهر العسل مع الكنديين لم يستمر سوى حوالي عامين، وبحلول عام 2017، كانت سلسلة من الخلافات قد شوهت صورته المثالية. حيث خسر حزبه مقاعد في البرلمان في الدورتين الانتخابيتين التاليتين، عامي 2019 و2021، ما تطلب منه تشكيل حكومات أقلية يدعمها حزب معارض يساري، وفي النهاية خسر هذا الدعم.
ترودو والنجومية
اعتاد ترودو منذ صغره على النجومية، وبعد أن أصبح والده رئيساً للوزراء تصدرت صورة ابنه الصغير أغلفة المجلات، ويقول كاتب سيرته ستيفن ماهر، إنه يتذكر مناسبات عدة وصفه فيها أفراد أسرته ب«الأمير»، بل وينقل ماهر عن ترودو الشاب قوله عن دخول السياسة: «لقد عرفت دائماً طوال حياتي أن هذا سيكون متاحاً لي إذا أردت».
ولد ترودو، البالغ 53 عاماً في يوم عيد الميلاد، بينما كان والده في ولايته الأولى من أصل أربع فترات في منصبه. حيث أشعل حماس الكنديين في أواخر الستينات، فيما أصبح يسمى «هوس ترودو». لكن في نهاية المطاف، عارضه الناخبون أيضاً، على الرغم من بقائه في السلطة لمدة 16 عاماً، وساعد إرثه في إطلاق مسيرة ابنه المهنية.
ويقول أحد القادة الأوروبيين السابقين إن الاجتماعات المبكرة مع ترودو تميزت باصطفاف الناس لالتقاط صور شخصية معه ومعاملته مثل نجم موسيقى الروك.
ويكشف داريل بريكر، خبير استطلاعات الرأي والرئيس التنفيذي لشركة إبسوس للشؤون العامة: «كان هناك هذا الحنين المرتبط بالاسم الذي نجح بالفعل مع جاستن».
نحن في عام 2015
واتبع ترودو عدة مسارات قبل دخوله المعترك السياسي، فبعد حصوله على دبلوم في الأدب الإنجليزي عمل دليلاً في رياضة التجديف في المنحدرات المائية ثم مدرباً للتزلج ونادلاً.
وأخيراً دخل معترك السياسة في 2007 وسعى إلى الترشح عن دائرة في مونتريال، لكن الحزب رفض طلبه. واختاره الناشطون في بابينو المجاورة وتعد من الأفقر في كندا وانتخب نائباً عنها في 2008 ثم أعيد انتخابه منذ ذلك الحين. وفي إبريل/نيسان 2013، أصبح زعيم حزبه.
ثم بدأ نجمه السياسي يصعد في 2015 بعدما فاز برئاسة الوزراء، خصوصاً مع رده على المساواة بين أعداد الرجال والنساء في حكومته الأولى، حيث قال ببساطة «لأنه عام 2015». ثم وصفته المجلات بأنه «قارب الأحلام السياسي الكندي».
ترامب ونقطة التحول
ومع تحول الولايات المتحدة من رئاسة أوباما إلى رئاسة ترامب في عام 2016، بدا أن ترودو يقدم استمرارية لسياسة أوباما. ومن بين ذلك في عام 2017 عندما قدم ترحيباً مفتوحاً للاجئين، بينما كان ترامب يتبع سياسة مناهضة لهم. لكن في هذا العام تحديداً بدأت حظوظه السياسية في الداخل تتلاشى بالفعل.
وأثناء توجهه إلى صناديق الاقتراع في عام 2019، هزت فضيحة شعبية ترودو، بما في ذلك إجازة مجانية فاخرة قضاها ولم يعلن عنها، وغيرها من مقاطع الفيديو التي لاقت انتقادات واسعة. وكان لذلك أثره، فلم يتمكن إلا من تأمين حكومة أقلية، ما ترك حزبه يعتمد على الحلفاء لتمرير التشريعات.
وفي غضون عامين، وفي منتصف إغلاق وباء كورونا دعا ترودو إلى انتخابات مبكرة معتقداً أنها قد تعيده إلى حكومة الأغلبية، لكن انتهى به الأمر مرة أخرى بقيادة أقلية فقط من الممثلين في مجلس العموم.
صعود اليمين و«قافلة الحرية»
بحلول تلك المرحلة، كان مركز الثقل السياسي في العالم الغربي يتحول بالفعل إلى اليمين. وفي كندا، اندلعت الاحتجاجات في أجزاء مختلفة من البلاد والتي أصبحت تعرف باسم «قافلة الحرية»، بما في ذلك أسابيع من التظاهرات في العاصمة أوتاوا، والتي أصابت وسط المدينة بالشلل.
ووجد الكنديون أنفسهم يعانون التضخم المستمر، الأمر الذي أدى إلى أزمة القدرة على تحمل التكاليف، في حين جاءت سياسة الهجرة المفتوحة لجلب العمال بنتائج عكسية، ما أدى إلى خلق رأي عام رافض للمهاجرين.
كما واجه ترودو أيضاً اضطرابات على الصعيد العائلي، حيث انفصل العام الماضي عن زوجته، بعد زواج استمر 18 عاماً، وإنجاب ثلاثة أطفال.
الولاية ال51
فوز ترامب في الانتخابات الرئاسية، فاقم من موقف ترودو الضعيف، بعد تهديد بفرض رسوم جمركية شاملة بنسبة 25% على البضائع الكندية، الأمر الذي من شأنه أن يدمر كندا اقتصادياً.
بل سخر ترامب أكثر من ترودو عبر منشورات على وسائل التواصل الاجتماعي، وأشار إليه باعتباره حاكم الولاية 51 الأمريكية، ثم دعا كندا إلى الاندماج مع أمريكا عقب استقالته.
وفي محاولة لتخفيف الأضرار، هرع ترودو إلى منتجع ترامب في مارالاغو بعد فوزه بالانتخابات، لكن على ما يبدو كانت النتيجة صفر تقريباً، بل إن ترامب واصل تصريحاته الحادة بحسب مصادر مطلعة، وقال لرئيس الوزراء الكندي، إن بلاده ستكون أكثر أماناً ورفاهية، إذا اندمجت مع الولايات المتحدة.
انتصار لترامب والزعيم المحتمل
وفور إعلان ترودو لاستقالته، وصفت النائبة مارجوري تايلور جرين، الحليفة القوية لترامب، الفضل للرئيس المنتخب في ما وصفته ب«تحرير» كندا. لكن سيبقى ترودو في السلطة حتى يختار حزبه زعيماً جديداً، وهو ما سيتعين عليهم القيام به قبل الانتخابات العامة في الخريف، والتي تشير استطلاعات الرأي إلى أن المحافظين سيفوزون بها مع بيير بولييفر كزعيم لهم.
وقال ترامب للمذيع الإذاعي المحافظ هيو هيويت، الاثنين، قبل أن تصبح استقالة ترودو رسمية، إنه سيكون «جيداً جداً» إذا تولى بويليفر منصب رئيس وزراء كندا في وقت لاحق من هذا العام. وأضاف: «من المؤكد أن وجهات نظرنا ستكون أكثر توافقاً».
وأرجع بويليفر الفضل إلى ترامب في استقالة ترودو، وقال إنه وآخرون غير راضين عن القيادة «مرتاحون» لإعلان الاستقالة. لكنه أصدر مقطع فيديو على موقع إكس يحث فيه الكنديين على عدم الانخداع بخطوة ترودو الجانبية ومواصلة الضغط من أجل تشكيل حزب قيادي جديد في الانتخابات في وقت لاحق من هذا العام.
وتزايدت الدعوات المطالبة باستقالة ترودو الذي تولى رئاسة الوزراء لثلاث فترات، بعد استقالة كريستيا فريلاند، نائبة رئيس الوزراء ووزيرة المالية، من الحكومة الشهر الماضي، متهمة ترودو بالتركيز على «الحيل السياسية المكلفة» أكثر من التركيز على التهديد الوجودي الذي تشكله إدارة ترامب المقبلة.
والآن يخرج ترودو من المشهد السياسي كواحد من أكثر الشخصيات السياسية التي لا تحظى بشعبية في كندا، ما يترك حزبه في وضع ضعيف وتواجه بلاده مستقبلاً اقتصادياً غامضاً، مع تولي دونالد ترامب السلطة في الولايات المتحدة.
وهو ما قد يظهر مع إجراء انتخابات بحلول أكتوبر/تشرين الأول، بسبب القواعد الانتخابية في كندا، لكن فوفق استطلاع أجرته مؤسسة إبسوس يتضح أن الليبراليين يتخلفون عن المحافظين بنسبة 25 نقطة مئوية.
0 تعليق