عندما تولى إيمانويل ماكرون السلطة عام 2017، وُصف المصرفي السابق والصديق للأعمال، بأنه النموذج الذي سيحول فرنسا إلى وجهة استثمارية عالمية من خلال تقليص الإنفاق العام وخفض الضرائب. لكن بعد سبع سنوات، تآكلت الصورة، وأصبحت أوراق اعتماد الرئيس الفرنسي الاقتصادية في قفص الاتهام، وبات هدفاً لانتقادات خصومه، الذين يتهمونه بتدمير مالية فرنسا.
وما التعديل الأخير في الميزانية، والذي يتضمن زيادات ضريبية وتخفيضات في الإنفاق بقيمة 60 مليار يورو، إلا علامة صارخة على أن إدارة الأموال في فرنسا انحرفت عن المسار الصحيح في عهد الرئيس الحالي.
تقليدياً، سعى ماكرون إلى تسجيل نقاط سياسية إيجابية من خلال تصوير نفسه على أنه الشخص البارع في ما يتعلق بالملفات الاقتصادية. وفي حملة الانتخابات البرلمانية هذا العام، سارع لانتقاد كل من جان لوك ميلينشون ومارين لوبان، زعيما اليسار واليمين المتطرف، بحجة إسرافهما غير المسؤول الذي من شأنه أن يطيح بفرنسا إلى الهاوية المالية. الآن يتذوق ماكرون من نفس الكأس، مع مهاجمة المعارضين والحلفاء له على حد سواء. وقالت لوبان، منتقدة عدم الكفاءة المالية لماكرون وسوء إدارته: «لقد دمروا فرنسا وكذبوا على الفرنسيين».
ومن المتوقع أن يصل العجز العام في البلاد إلى 6.1% من الناتج المحلي الإجمالي هذا العام، مقارنة ب2.6% في عام 2017. حيث انتقد خبراء الاقتصاد والسلطات المستقلة، مثل البنك المركزي الفرنسي ومحكمة المحاسبات، وصفة ماكرون الاقتصادية، التي اتسمت بمزيج من التخفيضات الضريبية للشركات والأفراد الأثرياء إلى جانب الإعانات السخية لقطاع الأعمال.
اليوم، تواجه الحكومة الجديدة بقيادة مفاوض الاتحاد الأوروبي السابق في ملف خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي ورئيس الوزراء الحالي ميشيل بارنييه، أزمة ميزانية حادة. إذ يتهم بارنييه أسلافه بالفشل في إخبار الفرنسيين بالحقيقة الكاملة عن ميزانية البلاد المتعثرة. وقال إنه وجد «وضعاً متدهوراً للغاية، وأكثر تدهوراً مما قيل».
في غضون ذلك، انخفض عجز فرنسا، وهو الفرق بين مقدار ما تنفقه الدولة وما تتلقاه من ضرائب، بشكل حاد على مدى الأشهر القليلة الماضية، وسيبلغ نحو 6% من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد هذا العام. ومع ذلك، يبقى العجز أعلى بكثير من التوقعات الرسمية للحكومة السابقة البالغة 5.1%، ومن حد العجز البالغ 3% الذي حددته قواعد الاتحاد الأوروبي.
ويتضمن مشروع الموازنة الكبير ضريبة جديدة على إعادة شراء الأسهم، وضريبة على إنتاج الكهرباء وزيادة الضرائب على الشركات، وخاصة للمجموعات الكبيرة، إضافة إلى ضرائب على الأسر الأكثر ثراءً، والتي تعكس جزئياً التخفيضات الضريبية السابقة.
في بداية ولايته الأولى، وقبل جائحة فيروس كورونا، بدا أن خطة ماكرون الاقتصادية تؤتي ثمارها. فقد تمكنت الحكومة من إبقاء عجز فرنسا أقل من حد 3% من الناتج المحلي الإجمالي الذي فرضه الاتحاد الأوروبي في عام 2018، كما حررت فرنسا نفسها من إجراء العجز المفرط السابق للكتلة. في الوقت نفسه، انخفض معدل البطالة في البلاد إلى 7.5% هذا العام، من 7.9% في عام 2017، وأصبحت فرنسا الوجهة الأكثر جاذبية للمستثمرين الأجانب في أوروبا، وفقاً لمسح أجرته شركة «إيرنست ويونغ».
لكن شهر العسل الاقتصادي لماكرون انتهى عندما ارتفع الإنفاق العام بشكل كبير للتعاطي مع الأزمة الاقتصادية الناجمة عن الوباء.
ومثل دول الاتحاد الأوروبي الأخرى، ضخّت فرنسا إعانات حكومية هائلة، هي الأكبر بعد ألمانيا، لإبقاء اقتصادها على قيد الحياة. وأثناء أزمة الطاقة التي غذتها الحرب في أوكرانيا، واصلت فرنسا ودول الاتحاد الأوروبي الأخرى الإنفاق لمساعدة الشركات المتضررة وتحديد أسعار الغاز والكهرباء.
وعندما خفّت حدة الأزمة، كافحت باريس لإعادة ترتيب ماليتها العامة. لقد ترددت في نوع التخفيضات الكبرى في الإنفاق أو زيادات الضرائب التي كان من الممكن أن تقلل من شعبية ماكرون في انتخابات الاتحاد الأوروبي والانتخابات الوطنية هذا الصيف. وعلى مدى الأشهر القليلة الماضية، حذر مسؤولون في أروقة وزارة الاقتصاد الفرنسية، من أن عجز فرنسا كان خارج نطاق السيطرة. لكن في العلن، استمرت الوزارة في نشر توقعات عجز متفائلة بشكل مفرط.
في الربيع، وعندما أصبح الوضع أكثر قتامة، اقترح وزير الاقتصاد آنذاك برونو لو مير، تقديم ما يسمى «مشروع قانون الميزانية التصحيحي لعام 2024»، الذي يهدف لطرح تخفيضات إضافية في الإنفاق وزيادة في الضرائب، وهو الخيار الذي استبعده ماكرون ورئيس وزرائه غابرييل أتال علنياً آنذاك، لخشيتهما من رد فعل عنيف قبيل انتخابات الاتحاد الأوروبي الصيف الماضي.
نفس المنطق عاد ليتجسد بعد أن دعا ماكرون إلى انتخابات مبكرة مفاجئة، وخرج الوضع المالي عن السيطرة تدريجياً.
استند منطق ماكرون على مبدأ أن خفض الضرائب على الشركات من شأنه أن يزيد النشاط الاقتصادي، ويولد دخلاً ضريبياً أكبر في خزائن الدولة. وفي لقاء مع صحيفة «لو نوفيل أوبس»، قال الخبير الاقتصادي جان بيساني فيري، العقل المدبر وراء برنامج ماكرون الاقتصادي: «من حيث المبدأ، لم تكن هذه استراتيجية سيئة. لكنها لم تنجح».
وباستثناء الفترات الحرجة، مثل الأزمات المالية، وكوفيد، لم يسبق في تاريخ الجمهورية الخامسة أن كان العجز العام مرتفعاً إلى هذا الحد. أقل ما يمكن قوله هو أنه إرث محرج، ورّثه غابرييل أتال لميشيل بارنييه. فكيف سمح ماكرون لمثل هذه الفجوة أن تكبر؟
0 تعليق