د. أيمن سمير
يدور نقاش حاد بين خبراء التخطيط العسكري حول المدى الذي يمكن أن تصل إليه مكانة الطائرات المسيرة «الدرونز» في مستقبل العمليات العسكرية خلال السنوات القادمة، بعضهم يرى أنها سوف تكون العامل الحاسم في صراعات المستقبل، وبعضهم الآخر يؤكد أنها سوف تكون عنصراً فاعلاً، لكنها لا يمكن أن تأخذ «مكان ومكانة» الطائرات العسكرية، مثل طائرات الجيل الخامس «أف 35» الأمريكية، و«جي 20» الصينية، وسو 57 الروسية. ويؤكد أصحاب هذا الرأي أن الطائرات المسيرة «الدرونز» لا يمكن أن تحل في المدى المنظور محل القاذفات الاستراتيجية مثل «بي- رايدر 52» الأمريكية، و«باك دا» الروسية
هذا الجدل لا ينفي الدور الكبير الذي تقوم به الطائرات العسكرية المسيرة في المعارك التي تجري منذ 3 سنوات بين روسيا وأوكرانيا حيث نجحت كلاً من موسكو وكييف في تطوير أجيال وأجيال من الطائرات المسيرة حيث أعلنت أوكرانيا أنها مستعدة لإنتاج مليون طائرة مسيرة عسكرية سنوياً، وزادت من الأبعاد التي تصل إليها، وحمولة الذخيرة التي تحملها، وشاهد العالم كيف استطاعت الطائرات المسيرة الأوكرانية الوصول إلى أهداف على مسافة نحو 1000 كلم، وهو المدى نفسه الذي تستطيع الطائرات المسيرة الروسية التي تصل إليه بشكل شبه يومي للعمق الأوكراني في العاصمة كييف ومدينة أوديسا على البحر الأسود
ومن يراقب الإنفاق العسكري في مجال الطيران يكتشف أن مختلف دول العالم - بداية من الدول العظمى والكبرى، مروراً بالدول المتوسطة، ووصولاً إلى الدول الصغيرة - زادت من إنتاج الطائرات المسيرة «غير المأهولة»، وهي الطائرات الانتحارية أو ما يطلق عليها «الكاميكازي»، فما هي المديات والأبعاد التي يمكن أن تصل إليها الطائرات العسكرية المسيرة؟ وكيف تعمل القوى العظمى في العالم مثل روسيا والصين والولايات المتحدة على تحقيق التفوق في مجال الطيران العسكري المسير «الدرونز»؟، وهل يمكن أن تحل الطائرات العسكرية المسيرة محل الطائرات ذائعة الصيت في العالم مثل «أف 35»، و«سو 57»؟
طفرة
نتيجة للتنافس الكبير بين القوى العظمى والكبرى على إنتاج وتطوير المسيرات العسكرية، شهد العالم طفرة نوعية، ونقلة غير مسبوقة في الطائرات غير المأهولة، فالكثير من هذه الطائرات يستطيع البقاء في الجو لمدة 24 ساعة، وأصبحت تشارك «بوعي شديد» في العمليات العسكرية المعقدة التي تشارك فيها الطائرات المأهولة والصواريخ البالستية وصواريخ الكروز، لكن التطور الكبير الذي لحق بالطائرات المسيرة العسكرية جاء من ربطها بالذكاء الصناعي التوليدي، بمعنى أن هذه الطائرات لن تلتزم بعد ذلك بالإحداثيات والمعلومات التي تقدمها القاعدة التي انطلقت منها، بل تستطيع أن تقوم بالمناورة والاشتباك حسب الحالة العملياتية والأهداف التي تعمل عليها.
ليس هذا فقط، فمن خلال الذكاء الصناعي تستطيع الطائرات المسيرة أن تعمل وتتعاون مع الطائرات المسيرة الأخرى التي تعمل معها في البيئة العملياتية نفسها، بمعنى أنها يمكن أن تعمل «كسرب قتالي» كما تعمل بالضبط الطائرات العسكرية التي يقودها الطيارون، وباتت تقوم بعمليات أخرى لا تقل أهمية عن العمليات القتالية مثل الاستطلاع، وتوسيع دائرة الاستشعار للمخاطر قبل قيام «الطائرات المأهولة» بقصف الأهداف المعادية.
دور حاسم
لهذا كان لها دور حاسم وفاصل في العديد من الحروب والمعارك، حيث استخدمتها دول وتنظيمات وحركات في هجماتها ودفاعاتها اعتماداً على قدرة هذه الطائرات على «توسيع خط رؤية المقاتلين»، ومجال إطلاق النار من خلال قدرة طائرات الدرونز العسكرية على تحسين دقة الأسلحة التي يتم إطلاقها من بعيد مثل المدفعية، وتحديد مواقع الشبكات اللوجستية للعدو واستهدافها، لكن ربما أحدث الأساليب التي يعمل عليها مخططي المعارك الجوية هو الاستفادة من الطائرات العسكرية من دون طيار بعيدة المدى في الوصول إلى المناطق البعيدة عن خط المواجهة من دون المخاطرة بتعريض الطيارين للخطر في الطائرات المأهولة.
لكن من سلبيات الطائرات المسيرة أنها تجعل من الحروب لا هوادة فيها، ويمكن أن تستمر الهجمات بشكل متواصل، لأنها ببساطة لا تتعب أو تشعر بالإرهاق مثل الجنود الذين يحتاجون للأكل والشرب والخدمات اللوجستية، وتستطيع المعلومات التي يوفرها الطيران العسكري المسير في «رسم مسرح عملياتي حقيقي» بالتعاون مع وحدات التحكم بما يتسق تماماً مع الظروف الميدانية للهجوم، وهي بذلك لا تترك فرصه استرخاء للعدو، لأن عيون الطائرات العسكرية غير المأهولة «لا ترمش ولا تنام» بما يجبر القوات على جانبي المعركة على أن يكونوا على أهبة الاستعداد باستمرار، وهو أمر مرهق لكل الجيوش
عناصر قتالية
وناهيك عن قدرتها على العمل سواء بشكل مستقل أو بالشراكة مع هجوم بأدوات وعناصر قتالية أخرى، إلا أنها تستطيع أن تساعد العنصر البشري على رسم خرائط التضاريس، وتحديد مواقع العدو بما يؤدي في النهاية إلى تخفيف عبء العمل عن المشغلين البشريين للتركيز على المهام ذات الترتيب الأهم، ويظل عنصر الكلفة هو أبرز المزايا التي تتمتع بها الطائرات العسكرية المسيرة، ويساعد سعرها المنخفض وتوفرها بسهوله على «تكافؤ الفرص» بين الجيوش الكبيرة والصغيرة حيث نجحت الكثير من الشركات في تكييف الطائرات التجارية من دون طيار «رخيصة الثمن» للاستخدام القتالي، خاصة أنه عندما يجري استخدامها بدلاً من الصواريخ باهظة الثمن في بعض الضربات.
وأجبرت الطرازات الحديثة من الطيران العسكري المسير، والتي تحمل كميات كبيرة من الذخيرة، أجبرت الجيوش والحكومات على الجانب الآخر من المعركة في شراء ونشر أنظمة دفاع جوي أقوى، لكن ربما أكثر من يميز الطائرات المسيرة العسكرية من الناحية الأخلاقية أن دقتها وبراعتها تساعد على تقليل الأضرار الجانبية، حيث يمكن للطائرات الصغيرة منها الدخول إلى المباني أو المناطق الأخرى ما قد يقلل من الدمار اللازم لضرب الهدف، ولهذا يجري استخدام الطائرات المسيرة في استهداف قيادة العدو بشكل أكثر فعالية.
تحديات المسيرات العسكرية:
أولاً: «الجماعات دون الدولة»
أكبر التحديات التي تواجه الدول في العالم خطورة أن تقع مثل هذه الطائرات المسيرة في يد «الجماعات دون الدولة»، والمقصود بها الميلشيات والجماعات الإرهابية والأيدلوجية، مثل داعش والقاعدة، وتعود خطورة هذه الأمر إلى أن الميلشيات لن تتورع في استهداف الدول والأهداف المدنية، مثل المطارات أو أبار النفط أو المدن، ونظراً لأن كلفة الحصول على الطائرات المسيرة العسكرية منخفضة، كما أن إطلاقها لم يعد يحتاج إلى مطارات ضخمة أو مدرجات طويلة يجعل من استخدامها أكثر سهولة، كما أن الحصول عليها ليس بالتعقيدات التي تتم بها عمليات بيع الطائرات المأهولة مثل الرافال أو اليوروفايتر، وأسهم دخول القطاع الخاص في تصنيع هذه الطائرات في انتشارها بشكل كبير بين الجماعات المتطرفة والميلشيات المسلحة، خصوصاً أنها لا تحتاج تدريبات معقدة كما هو الحال في طائرات «إف 16» التي تدرب عليها الأوكرانيون لشهور طويلة قبل أن توافق إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن على تسليمها لأوكرانيا في الصيف الماضي.
ثانياً: تحدي للدفاع الجوي
نتيجة للتطورات المتسارعة في تكنولوجيا الطائرات العسكرية المسيرة بات يتوجب على أنظمة الدفاع الجوي تطوير أدواته بشكل مستمر حتى يستطيع أن يسقط الطائرات المسيرة، وهذا الأمر يستدعي تعزيز أنظمة الدفاع الجوي بوسائل فعالة لرصدها والتصدي لها، وذلك لصعوبة اكتشاف الطائرات المسيرة التي تطير على ارتفاعات منخفضة، كما أن الرادارات التقليدية مجهزة فقط لاكتشاف الطائرات الكبيرة، وليس الطائرات الدرونز الصغيرة، وهناك تحدي أخر يتعلق بالأنظمة الدفاعية، فالكلفة هنا تكون حاضرة بقوة، لأن الطائرة المسيرة التي لا تزيد كلفتها على 10 ألاف دولار قد تكلف أنظمة الدفاع الجوي ملايين الدولار في إطلاق صواريخ «بحر - جو»، أو «أرض - جو» لإسقاط طائرة مسيرة مسلحة أحياناً لا يزيد سعرها على بضعة آلاف من الدولارات.
ولهذا بدأت الكثير من الدول في البحث عن أنظمة دفاعية لا تستخدم فيها الصواريخ غالية الثمن في إسقاط المسيرات، وتعتمد الأنظمة الدفاعية الجديدة على الليرز، لكن أنظمة الليزر الدفاعية لا تزال حتى يومنا هذا قيد التطوير، فالصاروخ الذي تطلقه المنظومة الدفاعية «ثاد» أو «باتريوت» لا يكلف فقط ملايين الدولارات، بل يحتاج إلى فترة طويلة لإنتاجه، فعلى سبيل المثال المنظومة الواحدة من صواريخ باتريوت يكلف إنتاجها نحو مليار دولار، وتحتاج إلى نحو عامين كاملين، ويحتاج تصنيعها لسلسل طويلة من الإمداد، وكأمثله على جهود إنتاج منظومات دفاع متطورة لمواجهة الطائرات المسيرة زودت بريطانيا الجيش الأوكراني بنظام دفاع جوي متحرك يطلق عليه «جراف هوك»، كما أن الولايات المتحدة تطور منظومة دفاع جوية جديدة بالليزر لا تكلف أكثر من 10 دولارات لإسقاط الطائرة المسيرة.
ثالثاً: عدم ملاحقة الأنواع الجديدة
أكثر التحديات التي تواجه جيوش العالم التي تقتني الطائرات المسيرة هو التطورات المذهلة في تقنيات وقدرات الطائرة المسيرة ذات الأبعاد العسكرية، فبعد التعاقد على طائرات ذات مواصفات ما، تفاجأ إدارة العقود في الجيوش أن هناك أنواعاً جديدة ذات مواصفات متقدمة عن تلك التي تعاقدت عليها، وتكون الدول المستهلكة للمسيرات العسكرية بذلك أمام خيارين، إما إلغاء العقود ودفع الشروط الجزائية، أو استكمال التعاقد وشراء طائرات مسيرة باتت قديمة وذات مواصفات متواضعة مقارنة بأحدث الطرازات والأجيال، وهذه المشكلة لا توجد عند التعاقد على الطائرات المأهولة، فالطائرات الأمريكية من «طراز أف 16» لا تزال مطلوبة في العالم رغم أنه جرى إنتاجها منذ أواخر السبعينات.
ورغم دخول طائرات أحدث منها للخدمة أبرزها طائرات «أف 35»، ويعود على التسارع في تكنولوجيا وإمكانات الطائرات المسيرة إلى نجاح الشركات التجارية في تصنيع طائرات مسيرة جرى توظيفها في الأهداف العسكرية، والتي تتمتع بزيادة عمق واتساع إسهامها في المراقبة والاستخبارات والاستطلاع، حيث تتمتع الطائرات المسيرة الجديدة بالقدرة على استهداف أكثر من هدف في وقت واحد، كما تتمتع الطائرات المسيرة التي تعمل في البحار والمحيطات «بالوعي الكامل» بالمجال البحري، وبفضل رادار البحث السطحي البحري تستطيع طائرة مثل «سي جاردن» تغطية مساحات واسعة من سطح المحيط، ويمكنها أن تحمل على متنها أجهزة سونار شديد الدقة ويرسل صور فائقة الوضوح.
رابعاً: المسيرات الشبحية
هناك اتفاق على أن مستقبل الطيران العسكري مرتبط بما ستصل إليه الطائرات المسيرة الشبحية والتي بات من السهل دمجها مع الأنظمة الجوية المأهولة بعد أن كشفت الصين هذا العام عن «أول طائرة مسيرة شبحية» تستطيع أن تخترق دفاعات العدو، والتخفي عن أحدث الأنظمة الدفاعية، وتستطيع كذلك أن تتشارك المعلومات التي لديها مع القاذفات الصينية العملاقة بما يجعلها قادرة على اختراق المجال الجوي المتنازع عليه، وتحديد الأهداف عالية القيمة للمنصات المسلحة «القواعد العسكرية»، للتعامل معها من نطاقات بعيدة المدى، وهو ما دفع الصين لإنفاق استثمارات ضخمة في تكنولوجيا الطيران غير المأهول.
فالطائرة الصينية الشبحية من طراز سي إتش 7 «قادرة على تحديد الأهداف للقاذفات الاستراتيجية بما يحول هذه القاذفات إلى» قيادة عسكرية «قادرة على التحكم والسيطرة نتيجة تلقيها بيانات دقيقة من الطائرات الشبحية من دون طيار، وهي بذلك تشبه الطائرة المسيرة الشبحية الأمريكية «أر كيو 180»، وخلال العام الجاري أعلنت الصين أنها تطور أكثر من 50 نوعاً من الطائرات المسيرة بقدرات متفاوتة، وأصبح لديها بالفعل أسطولاً من عشرات الآلاف من هذه الطائرات، الأمر الذي يجعل الصين أكبر بعشر مرات من تلك التي تمتلكها تايوان والولايات المتحدة مجتمعتين لكن على الجانب الروسي والأمريكي هناك شغف كبير لدى واشنطن وموسكو للعمل جنباً إلى جنب مع الطائرات المأهولة وفق استراتيجية «الأجنحة المخلصة».
[email protected]
0 تعليق