د. أيمن سمير
يؤمن الرئيس الأمريكي الجديد دونالد ترامب بأن «القوة العسكرية» يجب أن تكون في خدمة الدبلوماسية، وأن السلام والاستقرار هما السبيل الوحيد لتحقيق رخاء وازدهار الأمم والشعوب، ولهذا أصبح من الرؤساء الأمريكيين القلائل الذين لم تشهد أيامهم في البيت الأبيض أي صراعات أو حروب، بل تؤكد سنوات ولايته الأولى التي امتدت من 20 يناير 2017 حتى 20 يناير 2021 أنه بذل الكثير من الجهد من أجل بناء جسور السلام والتعايش المشترك، وإنهاء صراعات وخلافات طويلة وتاريخية.
الرئيس الأمريكي المنتخب أكد منذ إعلانه الترشح للانتخابات الرئاسية أنه قادر على وقف الحرب الروسية الأوكرانية التي اندلعت منذ 24 فبراير 2022 في 24 ساعة من دخوله البيت الأبيض من جديد، وفشلت جميع المقاربات السياسية والعسكرية السابقة في التوصل لصيغه لوقفها أو حسمها، ويعتمد الرئيس ترامب في ذلك ليس فقط على قدرته في التواصل مع الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والأوكراني فلاديمير زيلينسكي، بل على طرحة رؤية واستراتيجية خارج الصندوق تقوم على 3 محاور رئيسية:
شكوك منذ «الثورة البرتقالية»
المحور الأول عبر إنشاء «منطقة منزوعة السلاح» بين روسيا وأوكرانيا على طول الجبهة من الشمال إلى الجنوب والجنوب الشرقي، بطول نحو 1300 كلم تمتد من خاركييف شمالاً مروراً بمقاطعات لوجانسك ودوينتسك، ووصولاً إلى مقاطعات خيرسون وزاباروجيا، وهي المقاطعات الأربعة التي أعلنت روسيا ضمها رسمياً في 30 سبتمبر 2022
المحور الثاني هو تعهد أوكرانيا وحلف «الناتو» بعدم دخول أوكرانيا للحلف لمدة عقدين من الزمان على الأقل..
وهو تعهد رفضت أوكرانيا وحلف الناتو الالتزام به قبل وبعد الحرب في ظل تبني حلف الناتو لما يسمى بسياسة «الباب المفتوح».
ثالثاً: التأكيد على وجودية وكيان الدولة الأوكرانية..
وأهمية هذا المحور تأتي بعد أن شكك الكثير من الروس في استقلالية ووجود الدولة الأوكرانية منذ اندلاع ما يسمى بـ«الثورة البرتقالية» في أوكرانيا عام 2005، والتي كانت ضد أنصار ومؤيدي روسيا في أوكرانيا.
وتواجه خطة ترامب الكثير من الصعوبات أبرزها أن كلا الطرفين الروسي والأوكراني يرفعان حتى الآن «الحسابات الصفرية» عند الحديث عن السلام أو وقف الحرب، فأوكرانيا تتحدث عن «خيار واحد ووحيد» هو العودة لحدود عام 1991 عندما استقلت بعد تفكك الاتحاد السوفييتي السابق، وهذه الحدود لا تعني فقط استعادة المناطق الأربعة خيرسون وزاباروجيا ولوجانسك ودونيستك بل تريد كييف استعادة شبة جزيرة القرم، لكن روسيا ترى أن المناطق الخمسة التي ضمتها إلى أراضيها لا يمكن التنازل عنها لأن سكانها من أصل روسي، ويريدون العيش في كنف الدولة الروسية.
لكن التحديات أمام خطة ترامب لوقف الحرب الأوكرانية لا تأتي فقط من الجانبين الروسي والأوكراني بل تأتي من حلفائه الأوروبيين وحتى من جانب قطاع واسع من الحزب الديمقراطي الأمريكي والرئيس الحالي جو بايدن الذين يطالبون بالاستمرار في«المعادلة القديمة» التي تقوم على إرسال السلاح والذخيرة والأموال لأوكرانيا أملاً في تحقيق «هزيمة إستراتيجية» لروسيا، فما هي الأوراق السياسية والاقتصادية والميدانية التي يراهن عليها ترامب لوقف الحرب في أوكرانيا؟ وهل يملك «جزرة» يمكن أن يقدمها لطرفي الحرب لإنهاء هذا الصراع ؟ وكيف يمكن أن يساعد وقف الحرب الروسية الأوكرانية على عودة السلام والاستقرار الى مناطق وأقاليم أخرى في العالم؟
8 أوراق
تنطلق رؤية الرئيس ترامب في قدرته على وقف الحرب الروسية الأوكرانية من 8 أوراق تجمع بين المحفزات والضغوط، وهذه الأوراق هي:
أولاً: وقف إرسال الأموال
وهذا يعني الضغط على أوكرانيا لإقناعها بالذهاب إلى طاولة المفاوضات، ووقف تدفق السلاح والذخيرة والأموال إلى كييف، فالرئيس ترامب ونائبه جي دي فانس يعارضان إرسال مزيد من الأسلحة الجديدة إلى أوكرانيا بعد كل الأموال التي أرسلها الرئيس الحالي جو بايدن والتي بلغت 108 مليارات دولار في صورة مساعدات عسكرية واقتصادية وإنسانية منذ 24 فبراير 2022 وحتى يوم الثلاثاء 5 نوفمبر 2024، ويعتقد ترامب أن مواصلة الحرب تتوقف على تدفق السلاح والذخيرة للجيش الأوكراني، وأنه في ظل حاجة الجبهة الأوكرانية الى مليارات الدولارات وآلاف الأطنان من السلاح والذخيرة فإن وقف تدفق الأموال والسلاح إلى أوكرانيا كفيل بتغيير الحسابات الأوكرانية من الرهان على الميدان إلى الذهاب إلى طاولة المفاوضات، فبجانب الـ108 مليارات دولار التي أرسلتها واشنطن لكييف أنفقت دول الاتحاد الأوروبي مع أستراليا وكوريا الجنوبية نحو 175 مليار دولار أخرى لمساعدة أوكرانيا، ناهيك عن نحو 70 مليار دولار سيتم إرسالها قبل مغادرة الرئيس بايدن للبيت الأبيض منها 30 ملياراً من عائدات الأصول الروسية و20 ملياراً أخرى تعهدت بها واشنطن، وهو ما يقول إن الغرب قدم للرئيس الأوكراني زيلينسكي نحو 285 مليار دولار خلال نحو 32 شهراً من الحرب، وتحليل هذه الأرقام يقول إن أوكرانيا التي تستهلك نحو 250 ألف قذيفة مدفعية في الشهر تنفق يومياً نحو 294 مليوناً و 791 ألفاً و 666 دولاراً و7 سنتات، وكل هذا يقول إنه حال أوقف الرئيس ترامب إرسال هذه الأسلحة والذخائر إلى أوكرانيا فلن يكون أمام الرئيس الأوكراني إلا القبول بالذهاب إلى التفاوض، وسبق وصف الرئيس ترامب نظيره الأوكراني بأنه أكبر وأمهر تاجر في العالم، يأتي لواشنطن ويعود لكييف بمليارات الدولارات، كما سبق أن قال ترامب في شهر يوليو الماضي إنه عندما يفوز بالرئاسة سوف يقول للرئيس زيلنسكي «لا مزيد من الأموال، عليك أن تبرم صفقة».
ثانياً: تغيير سردية الحرب
يسعى فريق ترامب إلى تغيير «السردية» التي صاحبت الحرب الروسية الأوكرانية منذ 24 فبراير 2022 والتي تقول إن أوكرانيا تدافع عن الغرب وعن القيم الغربية، وأن روسيا عندما تنتهي من أوكرانيا سوف تتوجه بعد ذلك إلى الدول المجاورة الأعضاء في حلف دول شمال الأطلسي «الناتو» مثل بولندا أو دول بحر البلطيق الثلاثة لاتفيا واستونيا وليتوانيا، وهناك شخصيات جمهورية رفيعة تقول: إن الحرب الروسية الأوكرانية اندلعت لأسباب أخرى منها ضعف الرئيس الديمقراطي الحالي جو بايدن، وإصرار أوكرانيا على دخول «حلف الناتو»، وأنه لا يوجد تصريح روسي واحد يقول إن موسكو لها أطماع أو توجهات للحرب مع حلف «الناتو» أو أي دولة من دول شرق أوروبا، ولهذا يسعى ترامب إلى تغيير «الرواية والسردية» حول الحرب الروسية الأوكرانية بأنه نتيجة لأخطاء وعدم الالتزام بتنفيذ «اتفاقيات مينسك»، وليس للأمر أي علاقة بالدفاع عن القيم الغربية أو حتى دول حلف الناتو، وهدف ترامب من ذلك هو تغيير حسابات أوروبا وحلف الناتو من أجل تشجيع الأوكرانيين للذهاب إلى التفاوض.
ثالثاً: لا لهزيمة روسيا
تعتمد رؤية الرئيس ترامب على أهمية وحيوية التعاون مع روسيا من أجل الاستقرار العالمي، وكثيراً ما كان ترامب يكرر كلمات هنري كيسنجر التي تقول إن روسيا كانت جزءاً فاعلاً في معادلة السلام الأوروبي طوال نحو 400 عام، وتساءل ترامب أكثر من مرة عن جدوى السعي الغربي لهزيمة روسيا استراتيجياً، وخلال شهر أبريل الماضي عندما تم إقرار آخر حزمة مساعدات عسكرية أمريكية لأوكرانيا أكد جي دي فانس نائب دونالد ترامب أن هزيمة روسيا استراتيجياً لم تتحقق طوال نحو 1000 يوم و285 مليار دولار، وطرح فانس وقتها سؤالاً، لماذا السير في نفس الطريق ؟
رابعاً: كسر حلقة النار
طبيعة العلاقة التي جمعت الرئيسين بوتين وترامب خلال الولاية الأولى لترامب كانت تقوم على التعاون من أجل إيجاد حلول للمشكلات الجيوسياسية بين البلدين، وعندما كانت الخلافات تزاد بين موسكو وواشنطن كان يتحدث الزعيمان معاً أو يلتقيان في قمة مثل لقائهما الشهير في 16 يوليو 2018 في هلسنكي عاصمة فنلندا، لكن إدارة بايدن ذهبت في خصومتها مع روسيا إلى محاولة خنق روسيا وحصارها بأشد أنواع العقوبات، ومحاولة استعداء كل دول الجوار الروسي ضد روسيا، وضمن هذه المحاولات سعى البيت الأبيض لتفجير العلاقة بين روسيا وجيرانها في البحر الأسود، وبعد ضم فنلندا والسويد إلى حلف «الناتو» في عهد بايدن زادت حدة الخلافات بين روسيا ودول حوض بحر البلطيق مثل ألمانيا وبولندا والدانمارك و ليتوانيا ولاتفيا واستونيا، وليس هذا فقط، بل حاولت إدارة بايدن إثارة جيران وحلفاء روسيا السابقين ضد الكرملين خاصة في منطقة آسيا الوسطى وجنوب القوقاز والبلقان، وهي السياسة التي أطلق عليها البعض في واشنطن «حلقة النار»، لكن الرئيس دونالد ترامب لا ينوي مواصلة هذه السياسة، بل سوف يسعى إلى اكتشاف مزيد من المساحات التي يمكن أن يعمل فيها مع الرئيس بوتين بهدف «تهدئة التوترات» و«تبريد الصراعات» في مختلف البؤر الساخنة حول العالم، وهذه السياسة يمكن أن تشجع بوتين على الانخراط في محادثات مع ترامب تفضي في النهاية إلى وقف الحرب.
خامساً: نهاية سياسة الباب المفتوح
اقتراح الرئيس ترامب منع دخول أوكرانيا إلى حلف «الناتو» لمدة 20 عاماً، وهو ما يعني عملياً وقف سياسة «الباب المفتوح» التي كان ينتهجها «الحلف» منذ تأسيسه في إبريل 1949، وهذا مكسب سياسي كبير لموسكو والرئيس بوتين الذي طالب مراراً بأن تكون أوكرانيا على «الحياد»، وتقدير الرئيس ترامب يقوم على أن التلويح بورقة دخول أوكرانيا لـ«الناتو» من جانب الإدارة الديمقراطية الحالية كان سبباً مباشراً في اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية.
سادساً: شبه جزيرة القرم
لم تأتِ مبادرة الرئيس ترامب لوقف الحرب في أوكرانيا على ذكر شبه جزيرة القرم، وهو ما يعني من وجهة النظر الروسية إقرار أمريكي بأن شبه جزيرة القرم التي سيطرت عليها موسكو عام 2014 أراضٍ روسية، ومن شأن وضع شبه جزيرة القرم خارج أي مفاوضات مستقبلية بين موسكو وكييف أن يشكل حافزاً كبيراً للكرملين للانخراط في هذه المفاوضات خاصة أن حديث الدول الأوروبية عن الأراضي الأوكرانية نادراً ما يتطرق لشبه جزيرة القرم، وينظر في روسيا لمقترح ترامب بتحويل المناطق حول خط المواجهة إلى «مساحة منزوعة السلاح» باعتباره يصب في صالح روسيا لأنه عملياً ينتزع من أوكرانيا نحو 20% من أراضيها، وهو ما يساعد الكرملين على الانخراط في أي مفاوضات مقبلة.
سابعاً: السلام القائم على القوة
رسالة ترامب بشأن وقف الحرب كانت رسالة إيجابية لأوكرانيا أيضاً عندما تحدث ترامب أكثر من مرة مع الرئيس الأوكراني زيلينسكي حول مفهوم «السلام القائم على القوة»، وهو ما يعني من وجهة النظر الأوكرانية أن ترامب لن يسمح باستسلام أوكرانيا.
ثامناً: الورقة الاقتصادية
لم يكن ترامب متحمساً لتجميد الأموال الروسية في الغرب واستغلال عوائدها لتمويل الجيش الأوكراني، وهو ما يمنح ترامب ورقة لجذب الطرفين الأوكراني والروسي إلى الصفقة، وهذه الورقة تعتمد على إنهاء أو تخفيف العقوبات الأمريكية والغربية على روسيا، مقابل وعد بإعادة إعمار أوكرانيا، وهي مقاربة يمكن أن تشـــكل حافزاً لموسكو وكييف لإنهاء أخطر حرب في الأراضي الأوروبيــــة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية
العالم أجمع يأمل في نجاح الرئيس ترامب في وقف الحرب الروسية الأوكرانية التي كان لها تأثير سلبي على القريب والبعيد في جميع أرجاء المسكونة، لأن وقف الحرب الروسية الأوكرانية من شانه أن ينعش الاقتصاد العالمي ويخفف من مشاكل سلاسل الإمداد، ويعيد البشرية من جديد إلى مسار التعاون بدلاً من سياسات الاستقطاب وسباق التسلح.
[email protected]
0 تعليق