وها هي قواميس الهزيمة تعود للظهور بين كل أزمة وأخرى. دعوات ليست بالجديدة لفتح الحدود، وهدم السدود، وحشد الحشود. هذه الأدبيات القديمة تعود للواجهة. ما يزعج هو أن هناك من يصفّق لهذا الخطاب وهذا هو الأخطر فعلاً وقولاً، وكأن ستة عقود من الهزيمة لا تكفي لكي نتعلّم.
يقف الوعي العربي عاجزاً أمام القضية الفلسطينية، فهي تكشف كيف أن التعامل مع هذه القضية العادلة قسّم العرب، أكثر مما وحّدهم. هناك من يحاول أن يجعل من الأحلام المجردة، واقعاً سياسياً، وكأن العرب لديهم ترف الاختيار في عالم لديه قوانينه، وشرائعه، وخططه الكبرى. السياسة فن المنطق، وتعبير عن واقع حقيقي، لا علاقة له بالشعارات، والأمنيات.
كيف يمكن الانتصار في معركة الوعي؟ إن محاربة التضليل الإعلامي أمر مهم، فهذه العملية هي البداية اللازمة لإيقاف عملية خداع الشارع العربي، الذي لم يعد شارعاً بل مجموعة من الأرصفة الصغيرة، المتفرقة، والمحطمة. بدون عملية تحليل معمقة للخطاب السياسي العربي، فإنك لا تستطيع حل المشكلة أو التنبه لها. وهي رحلة مهمة لحماية جيل كامل من الشبان العرب الذين يستحقون مكاناً مهماً في خريطة المستقبل.
كما تقول مفاهيم الإعلام السياسي، فإن تحليل الخطاب السياسي هو عملية دراسة وفحص اللغة والأساليب المستخدمة في الخطاب السياسي لفهم الطريقة التي يُستخدم بها الخطاب لتحقيق أهداف معينة، مثل التأثير على الرأي العام، تشكيل الهوية السياسية، أو إضفاء الشرعية على السياسات. ومن خلال عملية التمحيص هذه يمكن الوصول إلى جوهر الخلل، ليس في الرسالة والمرسل فحسب، بل المتلقي أيضاً.
إن الكلمات غير قادرة على التغيير، وواقع الزمان والمكان، ولا يمكن لفصيل الانتصار بالمفردات، والخطب الرنانة، بل بما توفره الظروف والتحالفات والدبلوماسية. حين كان ديغول يتحدث عن فرنسا الأسيرة، لم يكن رصيده إذاعة وخطابات فحسب، بل كان لديه من الحلفاء ما يجعله قادراً على المواصلة، والانتصار، وتغيير الواقع. كما أن فرنسا الأسيرة كان لديها الحلم ذاته، والرغبة ذاتها في العودة إلى واقعها.
وكان الواقع الدولي يريد عودة توازن القوى إلى أوروبا، وكبح جماح التوسع النازي من أن يتغول ويصبح خطراً يهدّد الشرق والغرب. لقد كانت الإرادة الدولية لاعباً مهماً في التغييرات الجيوسياسية حول العالم، وبدونها تفشل المخططات الصغيرة، وتصطدم الأحلام بالواقع.
يملك كثير من منظري العرب ترف الاختيار. ما أسهل الكلمات والدعوات للنضال والتحشيد، طالما أنك في منزل دافئ، ومدينة آمنة. لكن المحشّدين ليسوا هناك، في ذلك الطابور أمام المخبز، ولا ذلك الطابور الباحث عن الماء، ولا مع الأطفال الذين ينتظرون المساعدات الساقطة من السماء. لقد كانت المدينة حية لولا المغامرين. هؤلاء كلهم، كانت لهم حياة، قبل أن يختطفها الذين لا يعلمون!
0 تعليق