أكبر تحدٍ يواجه العالم العربي منذ عقود طويلة هو التحدي الاقتصادي؛ فرغم الموارد المالية الضخمة لبعض الدول العربية إلا أنها لم تستطع بناء اقتصاد قوي قادر على صناعة استدامة مالية.. وحتى الدول العربية التي توصف بأنها غنية بسبب إيرادات النفط والغاز هي دول تمتلك سيولة مالية ولكنها لا تملك اقتصادًا قويا قادرا على الصمود في وجه التحديات، ولذلك تأثرت هذه الدول بشكل كبير جدا عندما تأثرت أسعار النفط خلال العقد الماضي.
وأثرت المشكلات الاقتصادية التي تعيشها أغلب الدول العربية في استقرارها السياسي.. وقد تتعقد هذه المشكلات خلال العقد القادم مع بروز تحولات جديدة في العالم من شأنها أن تؤثر في الجوانب الاقتصادية مثل تراجع دور النفط وظهور مصادر جديدة للطاقة مثل الطاقة النظيفة وبشكل خاص طاقة الهيدروجين الأخضر، وهذا أمر تدفع بع دول العالم ومنظماته بشكل كبير جدا، ومع الوقت ستتأثر كل الدول المنتجة للنفط في العالم العربي خاصة وأنها لم تستطع بناء اقتصادات قوية قادرة على الاستدامة بعيدا عن النفط. وإذا كان هذا الأمر شديد الخطورة على الدول المنتجة للنفط فإن الثورة التكنولوجية المتمثلة في الذكاء الاصطناعي من شأنها أيضًا أن تحدث مشكلة حقيقية في جميع دول العالم وبشكل خاص الدول العربية. وتشير الدراسات إلى أن الكثير من الوظائف الحالية في العالم ستتأثر بسبب الذكاء الاصطناعي الذي سيستحوذ قريبا على معظم الوظائف ويعمق مشكلة الباحثين عن عمل في العالم العربي.
تطرح هذه المشكلات والتحديات الاقتصادية التي تواجهها جميع الدول العربية مشكلة أخرى جهورية تتمثل في غياب المفكرين الاقتصاديين. هذه المشكلة ربما كانت هي أساس جميع المشكلات الاقتصادية في العالم العربي فغياب المفكرين والمنظرين الاقتصاديين أثر كثيرا في عملية بناء اقتصادات العالم العربي، التي صنع أغلبها وفق اجتهادات بعيدا عن وجود فكر اقتصادي منبثق من فلسفة واضحة المعالم.
وعبر التاريخ كان اقتصادات الدول تزدهر في ظل وجود مفكرين وصناع سياسات اقتصادية شاركوا في وضع استراتيجيات أسهمت في نهوض الكثير من الدول وأحيانا الأمم.
يحتاج العالم العربي في هذه اللحظة التي تشهد تحولات جذرية في المنطقة في المسار السياسي أن يهتم في بناء مفكرين اقتصاديين قادرين على التعامل مع هذه التحولات والمشاركة في رسم مسارات المستقبل، ولا بد أن يكون هؤلاء مجهزين للتعامل مع ثلاثة تحديات أساسية هي: تنويع مصادر الدخل، والتكيف مع التقدم التكنولوجي، وتقليل تحدي الباحثين عن العمل.
ليس من الواضح أن الدول العربية التي كانت تحقق فوائض مالية كبيرة نتيجة عوائد النفط قادرة على سد العجوزات المالية المتراكمة في ميزانياتها منذ عدة سنوات، وإذا كانت هذه الدول قد وفرت الكثير من البنى الأساسية في دولها فإن المرحلة القادمة ستشهد الكثير من التغيرات بسبب تراجع دور النفط وعوائد وظهور الطاقة المتجددة والنظيفة التي يدفع نحوها العالم أجمع.
ومن المهم القول: إن بعض الدول مثل سلطنة عمان والمملكة العربية السعودية بدأت في إطلاق مشروعات طموحة من شأنها تجاوز مرحلة النفط في مراحل جديدة حيث تسعى سلطنة عمان - على سبيل المثال ـ إلى أن تكون في صدارة الدول المنتجة للهيدروجين الأخضر رغم أنها تعدّ من بين الدول المنتجة للنفط والغاز. لكن هذا الأمر لا يمكن أن يتم دون وجود حركة فكرية اقتصادية، بمعنى دون وجود مراكز بحثية في المجال الاقتصادي ودون تأهيل مفكرين اقتصاديين قادرين على قراءة التحولات العالمية وربطها بالتحولات الاقتصادية.
والمفكرون الاقتصاديون قادرون على إنتاج أطروحات تواكب المرحلة واقتراح مسارات جديدة تعزز الصناعات مثل التكنولوجيا والسياحة والزراعة، وابتكار مسارات جديدة منبثقة من روح المجتمع وموارده وليس عبر استيراد قصص نجاح دولية غير قابلة للتطبيق في مجتمعاتنا العربية.
وإذا كان الذكاء الاصطناعي يعيد الآن تشكيل أسواق العمل في جميع أنحاء العالم، فإننا في العالم العربي في أمسّ الحاجة إلى معالجة قضايا الباحثين عن عمل التي من المنتظر أن يفاقمها الذكاء الاصطناعي بشكل كبير جدا خلال خمس سنوات فقط إذا لم تتم إدارتها بشكل استراتيجي. لذلك نحن في حاجة ماسة إلى مراجعة كل شيء يمكن أن يتعلق بهذه النقطة وفي مقدمة ذلك مراجعة البرامج التعليمية في المؤسسات الجامعية. وعبر التاريخ قام المفكرون الاقتصاديون بصناعة تحولات كبرى في دولهم، على سبيل المثال، أحدث جون ماينارد كينز ثورة في الاقتصاد الحديث بنظريات أسهمت في صناعة التعافي من الكساد الأعظم في بدايات القرن الماضي. وفي العقود الماضية أظهر رئيس الوزراء السنغافوري لي كوان يو براعة في كيفية استثمار رأس المال البشري في تحويل دولة فقيرة بالموارد إلى قوة اقتصادية عالمية. يحتاج العالم العربي أكثر من أي وقت مضى إلى عقول اقتصادية ومراكز بحثية قادرة على صناعة فكر اقتصادي جديد من شأنه أن يقفز بالدول العربية من حالة الانسداد «الحضاري» و«الاقتصادي» إلى حالة الإنتاج الفكري والاقتصادي.
0 تعليق