إلى صُنَّاع الثقافة .. الهندسة الثقافية تحقق التضامن الهوياتي - ستاد العرب

0 تعليق 0 ارسل طباعة تبليغ حذف

رغم حداثة مفهوم الهندسة الثقافية في سياق السياسات المتعلقة بتطوير مجالات العمل الثقافي، إلا أنه بات مفهوما مركزيا في الأدبيات التسييرية لكل نشاط جمالي طمعا في تطبيق وظيفي للتراث الثقافي المادي والروحي يعود على المجتمعات بأفضل ما يجود به الإبداع، وللأسف لا تزال مؤسساتنا الثقافية في المنطقة تتعامل مع الإرث الثقافي بشكل لا يرقى لأهميته ووظيفته الاقتصادية، بل الاجتماعية وهي الأهم، كون الفعل الثقافي في جوهره يخدم المجتمع لا من حيث العائد المادي فقط بل الأمر أعمق من ذلك، فالنشاطات الثقافية لدينا ما زالت شكلا من أشكال التجمهر الفئوي، ولم تصل بعد إلى تركيبها حدثا في الوعي قبل المكان. ويبدو أن الطابع الاحتفالي الطاغي على مجمل أشكال التنظيم الثقافي هو البالغ هدفه عند المشتغلين فيه، وهنا تكمن الإشكالية، ونحن نستخدم تعبير «إشكالية» عن عمد، كونها تعبير عن طبيعة الأزمة التي يعيشها النشاط الثقافي العربي، وهو ما يفيد بتشابك المسألة وتناظم متاعبها بصورة تشي بالتعقيد، لأننا بحق لو نظرنا إلى غالبية الاحتفالات والمناشط في الشعر والمسرح والموسيقى وغيرها فإنها تنعقد لتموت، فالكم الهائل من الفعاليات الثقافية لا يمارس تأثيرا واضحا في المجتمع، بل لا يتمدد حضورها أكثر من طبقتها (مجازا) ورغم وجود جمهور، إلا أن العلاقات التي تربط بينه وبين الفعل الثقافي تكاد تكون في حدودها الدنيا، وإلا قُل لي كيف يوجد هذا الكم من الشعراء والأدباء وبقية أهل الفنون وما زالت معدلات العنف الاجتماعي والكراهية والانخراط في الأذى تحقق معدلات متصاعدة؟ وقد يُطرح السؤال حول يقين ما نشير، ولكننا نعتقد أن نظرة عامة لواقع المجتمعات العربية يكشف بقوة عن هذه الحقيقة. وما نريده في هذه المقالة هو الإشارة إلى ضرورة تغيير الطريقة التي يدار بها العمل الثقافي، وأن يتم حقن الواقع به عبر تمديد حضوره، وليحدث ذلك فالطريقة الأمثل هي بناء منظومة من الإجراءات لصالح إعادة تنظيم وتخطيط وتنسيق الأحداث الثقافية المختلفة.. فمن أين نبدأ؟!..

إن الجوهري في الهندسة الثقافية هو تطوير العلاقة بين الجمهور والفضاء العمومي، ولذا يتوجب العمل على خلق آليات لصناعة الجمهور، وهو أمر يقترح علينا القيام ببعض التدابير لفهم الأبعاد الكلية لهذه الثنائية (ثقافة/جمهور) وهي تدابير تقوم على عمليات من تحليل لبيان الصلة التي يقيمها الفعل الثقافي مع المجتمع، ولأننا قلنا إن الجمهور هو الركن الأساس في هذه العملية فإنه وهو كذلك ليس كتلة صمَّاء مُعْدة للاستهلاك، إذ لا تنطبق على الجمهور أشراط الاستهلاك المادي، فالجمهور الثقافي شيء آخر غير الحشد، فالأخير هو نموذج لوحدة اجتماعية خاضعة للتمييز، ولذا فالحشد (يتشييء) أما الأول فإنه يمتاز باستقلالية روُضَتّها إرادة في الانتظام، ومن حيث معناه العام فإنه لم يعد تلك الجموع المُعَزْزَة بالتمثيل (المواكب، الاحتفالات، أصوات الهتاف) فهذه ميزة الحشد لا الجمهور، وهو متباين طالما لم يعد فكرة مسبقة في الذاكرة أو المكان كما نفهم مقولة الكاتبة الفرنسية هيلين مارلين. والحقيقة أن الجمهور أقرب إلى (الجماعة) لا (الجَمع) ومن الخطأ الخلط بينهما، فالفرق أن الجَمع تنقصه القوة الاجتماعية المؤدية إلى التماسك أو الترابط وتنظيم التفاعل في ظل علاقات اجتماعية يحركها الوعي الذاتي، ولذا فالجمع بطبيعته غير اتفاقي، غير مستقر ومؤقت، فالأفراد لا يكتسبون عضوية (الجَمْع) كما هو الشأن بالنسبة للـ(جماعة). ولتحقيق درجات من تضمين بين النشاط الثقافي والجمهور العام فإننا نفهم كيف أن الجمهور كـ«ظاهرة» هو تعبير عن تنوع مركب، وهذا التركيب هو ما يجب أن يتقصَّدُه صُنَّاع الثقافة طمعا في الوصول إليه وبناء لجسور الفهم معه وذلك عبر تعميق حضوره وجعله أكثر إنتاجية وزحزحة حالات التسليب التي يعيشها.

ولذا فإن أولى المهام الملقاة على عاتق مؤسسات الثقافة العربية أن يكون ضمن هيكلها الوظيفي وحدة للدراسات الثقافية وظيفتها تطوير عمليات الإدارة والتسويق والاتصال، وأن يقوم على هذه الوحدة مختصون يجمعون بين تخصصات مختلفة (سياسات تطبيقية، سيسيولوجيا وعلم نفس...إلخ)، وأن يمتلك عناصر هذه الوحدة من الحصيلة الثقافية ما يسمح بتأسيس أوفى للتنظيم وقدرة على هندسة الاستخدام الموجب للثقافة في سبيل الوصول إلى جعل أي بيئة ثقافية بمثابة مسكن للوعي يصنع حالات من الارتباط المستمر، وتدفع الجمهور إلى التواصل معه لا بوصفه مكانا ثقافيا فحسب بل باعتباره مؤصلا لعلاقاتها مع العالم الاجتماعي الذي تنتمي إليه وتعبر عنه. والواقع أن جمهور اليوم بات أكثر احترافية من ذي قبل، ومعه باتت سلعنة الثقافة أمرا حتميا في ظل عولمة كل شيء من حولنا، ولأنه جمهور يحوز على قدر عال من المخزون البصري، فإن ذلك مما يضع على عاتق المسؤولين عن إدارة الثقافة في أي بلد (المتاحف،الآثار، والمعالم التاريخية والمزارات...إلخ) أن يحصنوا نشاطهم بتفكير أكثر ابداعية حتى يضاعفوا التركيب بين النشاط الثقافي والجمهور العام، وهذا بدوره يتطلب أدوات اتصال أكثر احترافية لا تكتفي بالإعلان والتنظيم التقليدي للأنشطة والفعاليات بقدر ما يتوجب عليها فهم الخصائص التي يتكون منها أي نشاط، وأي جمهور تخاطب، وكيف يمكن إحسان الصلة بين الفاعلية وجمهورها بحيث يكتسي نشاطها أبعاده الاجتماعية.

إننا نتطلع إلى أن تقوم مؤسساتنا الثقافية الحكومية والخاصة منها بأدوار كبرى في تحصين المجتمع من أزماته، فالثقافة في جوهرها سبيل المجتمعات إلى محاصرة تشظيات الوعي وإنعاش الوجدان بالجمال المُكِون للفرد الاجتماعي، الفرد الصالح والمعبأ بأسباب الحياة والمشبع بروح الإنسانية التي تصنع فيه هُوية متسامحة ومعادية للكراهية في أشكالها كافة.

غسان علي عثمان كاتب سوداني

أخبار ذات صلة

0 تعليق