الهُويّة الوطنيّة في مواجهة العولمة الرقميّة - ستاد العرب

0 تعليق 0 ارسل طباعة تبليغ حذف

يتسّم عالمنا اليوم بتسارعٍ رقمي مذهلٍ جعل من المجتمعات الإنسانية قريةً رقميّةً تتقاطع مكوّناتها عبر شبكاتٍ متعدّدة ومستويات متداخلة، وفي ظل هذا التسارع، تتأرجح الهُويّة الوطنيّة بين التأثيرات الرقمية وتجاذباتها وبين نمطها المجتمعي التقليدي، حيث باتت القضيّة الجوهريّة تتعلق بمدى قدرة المجتمعات على الحفاظ على أصالتها وخصوصيّتها الحضاريّة، وفي خضمّ ما تفرضه العولمة الرقميّة من أنماط ثقافيّة واجتماعيّة جديدة، وهنا تتجلى معضلة الهُويّة الوطنية وتحدياتها؛ فتتطلب الهُوية الوطنية ولاءً للوطن وعناصره وما يحمله من جذورٍ تاريخيّة، ورموزٍ سياديّة، وقيمٍ عميقة؛ وفي ظل هذا التسارع الرقمي، يتعمّق الولاء للمنظومات الرقمية وما تفتحه من آفاقٍ عالميّة غير مسبوقة تسوق المجتمعات وأفرادها إلى دائرة تهدد الهُويّة الوطنية وعناصرها، وفي هذا الإطار، تندرج أسئلةٌ فلسفيّةٌ جوهرية تتعلّق برمزية الولاء وكينونة الهُويّة ومعادلات تحولات الولاء وذوبان الهُويّة مع موجات الهيمنة الرقمية.

في زمن سابق للهيمنة الرقميّة، كان الولاء مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا برمزيته الوطنية التي تُجسّد الوطنَ بالمعنى الجغرافيّ والحضاريّ، وكان الانتماء للوطن ولاءً للقيم والتقاليد واللغة والتراث المشترك؛ فيكون التاريخ الوطني والتجارب الجمعيّة عاملًا في تشكيل وعي الأفراد وارتباطهم العاطفي بالحياة المشتركة، ولكننا نلحظ أن العولمة الرقميّة أعادت صياغة مفهوم الولاء ليُصبح أكثر سيولة؛ فلم تعد الحدود الجغرافية بين الدول تعيق تواصل المجتمعات الإنسانية؛ فغدت شبكات الاتصال العالمية «الإنترنت» ومنصاتها الرقمية المتقدمة كأنها بوّابات عالمية تُفتح على مصراعيها أمام تيّارات من الأفكار والثقافات بجميع أصنافها دون قيود أو موانع، ولتعيد تأطير العمل والتعلّم والتفاعل الاجتماعي بشكل منفصل عن قطبيّة الثقافة والهُويّة الواحدة، وفي خضّم هذا الانجراف الرقمي وعولمته، سيكون الولاء للمنظومات الرقميّة ليس وصفا مجازيّا، بل واقع يمارسه الأفراد ويعيشون تفصيلاته بشكل يومي؛ فيتفاعل الناس في مجتمعات رقميّة نازعة لمعاني الأوطان وهُويّاتها؛ فيعتنقون هُويّاتٍ افتراضيّة تشاركيّة تجمعهم بمن يشتركون معهم في الاهتمامات والأفكار والقيم من مختلف أنحاء العالم، وهذا ما يشكّل مفارقة مفادها: أيمكن للإنسان أن يظلّ مخلصًا لتراثه الثقافيّ وخصوصيّته الوطنيّة في الوقت الذي ينساب إلى هويّةٍ عالمية أوسع نطاقًا وأكثر تعقيدًا؟ وفي ظل هذه التجاذبات الفكريّة والثقافيّة تتشكّل أزمة تلاشي ثقافات على حساب ثقافات رقميّة ناشئة، مع العلم أنني ناقشتُ هذه الأزمة وارتباطاتها في كتاب أرجو أن يرى النور في أشهر قادمة -بإذن الله.

لعلّ المميزات التي يمكن أن تُلمحَ في العولمة الرقميّة تتمثّل في قدرتها الاستثنائيّة على صناعة بيئات اجتماعيّة بديلة تجتذب فئة الشباب على وجه الخصوص، وفي حين يجد كبار السنّ صعوبةً في التفاعل مع التحوّلات الرقميّة السريعة؛ فيُحدث فجوة ثقافيّة داخل المجتمع الواحد، ويكون طرفها الأول مَن ينشد الحفاظ على القيم الوطنيّة والهُويّة بمفهومها التقليدي، وطرفها الثاني أولئك الذين يبحرون في العالم الافتراضي دون أيّ اكتراث للحدود السياسيّة والجغرافيّة. في ظل هذا المسار الواقعي، يصبح إهمال المكوّن الوطني من قِبل جيل الأنظمة الرقمية ومنصاتها الاجتماعيّة خطرًا حقيقيًّا على التماسك الداخلي؛ فيقود إلى تراجع الانتماء الجماعي والتقليل من فكرة الوطن وهُويّته. نرى كذلك أن معضلة الولاء الرقمي لا تنحصر على الاندماج في المجتمع الافتراضي وحسب، ولكن تتجاوزه إلى تبنّي قيمٍ ومعايير يمكن أن تتعارض مع العناصر الوطنيّة الأصيلة؛ فيحدث أن ينجرف بعضُ أفرادِ المجتمع وراء موجاتٍ ثقافيّة خارجية تأتي في أشكالها المتعددة مثل المحتوى الرقمي الخاضع لهيمنة الشركات الرقمية أو الإعلامية ومعاييرها الخاصة ذات الأجندة السياسيّة والاقتصاديّة؛ فينتقل بعدها الانتماء الرقمي من مرحلة كونه أداةَ اكتسابٍ معرفيةٍ إلى ظاهرة خطيرة تتمثّل في الذوبان مع ثقافةٍ دخيلة تُهدِّد فكرة الانتماء للهُويّة الوطنية، ويتضاعف خطر هذه الظاهرة مع المحتويات الرقمية ذات الخطاب التسويقي الجذّاب والمؤثّر.

من زاوية فلسفيّة، يتصل مبدأ الولاء للهُويّة الوطنية بقيمٍ وجوديّةٍ ضاربة في جذور التاريخ وتتفرع في محطاتها الحضاريّة؛ فلا يمكن أن نعتقد أن الوطن جغرافيا صمّاء فحسب، ولكنّه ذاكرةٌ جمعيّةٌ تحمل المعنى الثقافي الذي يضفي على الأفراد إحساسًا بالأمان والاستمرار، ولهذا، لا غرو أن نقول إن فقدان الولاء للهُويّة الوطنية سيُفقد المجتمع بعضًا من جوهره وقيمه الأصيلة التي تراكمت عبر قرون طويلة واختزلت تجربة إنسانية عميقة لا ينبغي أن تذهب هدرا لمجرد حدوث عملية التغيّر الحضاري عبر الزحف الرقمي الذي نخوض مناقبه ومثالبه. بالإضافة إلى ذلك، نجد مظاهر الولاء للتوجهات الناتجة من الأنظمة الرقمية؛ فتكون -في بعض زواياها- رافدةً للتواصل الإنساني وتبادل المعارف وصناعتها؛ فيمكن أن يصفها بعضنا بأنها ظاهرةٌ تحررية من المحدوديّة الجغرافيّة، وهذا ما يراه بعضنا في سياق التحرر المحمود الذي يفتح آفاقَ التفاعلِ بوجود التنوع الثقافي والإنساني العالمي. لكن، تتجلى معضلة الهُويّة الوطنية واحتمالات تلاشيها أمام الانفتاح الرقمي غير المنضبط والمفتوح؛ فنسأل: أيصح أن يتحوّل الإنسان إلى كائنٍ رقمي محض متشبّعٍ بما تُمليه عليه شاشاتُه المنفتحة على اللامحدود؟

كل ما نحتاجه أن نبحث عن توازنٍ يحقق الولاء للهُويّة وعناصرها الوطنية الشاملة مع المحافظة على ارتباطاتنا الرقميّة النافعة التي باتت ضرورةً فكريّةً واستراتيجيّة؛ وحينها نحتاج أن نوقن أن الهُويّة الوطنيّة ليست عقبةً أمام الانفتاح والعولمة الرقمية، ولكنّها بمنزلة صمام أمان يضمن استمرار التنوع الثقافي وثراء التجارب البشريّة وترصين النسيج الوطني، ويمكن اقتراح بعض الآليات التي يمكن أن نضبط بها هذا التوازن المنشود مثل: العمل على التربية الرقميّة عبر ترسيخ قيم الانتماء الوطني بوضع أبجدياتها ومفاصلها في المناهج التعليميّة والثقافية بجانب مواكبة الأدوات الرقميّة بهدف دمج الشباب في مشروعٍ تنموي تشاركي يجمع بين الأصالة الوطنيّة وآفاق العولمة الرقمية. كذلك العمل على تبنّي سياسات رقميّة وطنية تسهم في توجيه الإنتاج المعرفي والرقمي إلى تفعيل هُويّة المجتمع عن طريق إنشاء منصّاتٍ رقميّة محليّة تعزّز الحوار الثقافي وتتيح تبادل الأفكار في سياقٍ يحترم الخصوصيّة التاريخيّة والثقافية (اللغة، الدين، والقيم المجتمعية وأعرافها). يأتي أيضا تطوير المحتوى الثقافي التفاعلي عبر تفعيل قنوات التواصل الاجتماعي لنشر المحتوى الثقافي الوطني المعني بتمثيل الهُويّة الوطنية وعناصرها. كذلك إحياء الرموز الوطنيّة رقميًّا بواسطة توظيف التقنيّات الحديثة في أرشفة الوثائق التاريخيّة والأعمال التراثيّة، وإنتاج المحتوى المرئي والمسموع الذي يربط بين الذكريات الماضية والأجيال القادمة بصورةٍ تفاعليّة تعزز عناصر الهُويّة الوطنية. تأتي أيضا آلية تعزيز الحوار الفكري عبر تفعيل النقاشات الفلسفيّة والدراسات العلمية فيما يتعلق بمفهوم الهُويّة الوطنيّة في العصر الرقمي؛ ليرفد مسوغات إيجاد رؤى متجدّدة قادرة على مواكبة التحوّل السريع. نستنتج أن ظاهرة التصادم بين الولاء للهُويّة الوطنية وظهور الولاءات الرقمية حالة حتميّة ينبغي التسليم بوجودها، ولكن ما يضاعف خطر هذا التصادم غياب الرؤية المتوازنة التي ينبغي أن تكون حاضرةً لحفظ الانتماء للهُويّة الوطنية والدفع بترسيخ قيمها وثقافتها عبر تسخير الأدوات الرقمية ومنصاتها دون الحاجة إلى الهروب منها وتجنبها.

د. معمر بن علي التوبي أكاديمي وباحث عُماني

أخبار ذات صلة

0 تعليق