عُمان.. سيرة الأرض التي لا تنحني - ستاد العرب

0 تعليق 0 ارسل طباعة تبليغ حذف

فـي كل أمة لحظة تلتقي فـيها الأزمنة، تتشابك خيوط الماضي بآفاق المستقبل، ويتبدى الحاضر بوصفه جسرا بين إرث ثقيل بالمجد وطموح عارم لا حدود له. وعُمان، الأرض التي لم تنحنِ أمام العواصف ولم تنطفئ شعلتها رغم رياح التغيير التي عصفت بالعالم، تقف اليوم أمام مفترق تاريخي جديد، حيث يجتمع فـيها صوت الأجداد مع هتافات الأجيال الجديدة. فـي خطاب جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم - حفظه الله ورعاه- أمس لم يكن التاريخ ذكرى تُروى أو أداة تُستدعى، بل كان روحا تُبعث، وعهدا يُجدد، ورؤيةً تُبنى.. وكانت هتافات طلاب عُمان فـي العرض الطلابي أبوابا تفتح آفاق المستقبل بوعي كبير.

كان حضرة صاحب الجلالة، أيده الله، وهو يلقي خطابه الفارق فـي لحظة مهمة من لحظات عُمان كما لو كان يحاور صفحات التاريخ، يستحضر السيد أحمد بن سعيد وسلاطين وأئمة عُمان عبر القرون الذين صنعوا الوعي السيادي لعُمان وكرسوا استقلالها وصنعوا الحرية والكرامة لأبنائها الكرام. كانوا، على الدوام، مؤمنين بفكرة عُمان وبدورهم الحضاري والأمانة التاريخية الملقاة على عاتقهم، ومدركين أن الأرض تحتاج إلى فكرة، والفكرة تحتاج إلى راية ترفرف شامخة، فكانت راية عُمان خفّاقة على الدوام وكان نظامها السياسي أقدم نظام سياسي فـي العالم ما زال مستمرا منذ أربعة عشر قرنا ويزيد.. وحينما أعلن جلالة السلطان المعظم أن يوم العشرين من نوفمبر سيكون يوم عُمان الوطني لم يكن ذلك تكريما للتاريخ فقط بل يعتبر درسا للحاضر والمستقبل: إن التاريخ ليس بُعدا زمنيا، بل هو الأرض التي تُبنى عليها الطموحات.

إن الحديث عن السيادة الكاملة فـي خطاب جلالة السلطان المعظم لم يكن مجرد استذكار لحقبة، بل تأكيد على أن عُمان، التي تجاوزت محن التاريخ، تظل دولة تعرف موقعها فـي العالم وتاريخها وسط التاريخ الإنساني وتفهم حدود مسؤولياتها الحضارية والتاريخية. والسيادة هنا ليست صراعا على الأرض فقط، بل هي القدرة على بناء دولة تستطيع الحفاظ على هُويتها وسط أمواج التغيير والعولمة التي ما زالت تجتاح العالم رغم حديث انحسارها. إن السيادة التي تحدث عنها عاهل البلاد المفدى هي التي نقرؤها فـي مواقف عُمان المتزنة والعادلة، حيث لا تَميل كفة على حساب أخرى، وحيث تكون المصلحة الوطنية والإنسانية هي البوصلة الدائمة.

لكن الخطاب، بقدر ما احتفى بالتاريخ، كان رسالة مفتوحة للمستقبل على اعتبار أن المستقبل هو نتائج للتاريخ. ومن يقرأ «رؤية عمان 2040» ويتابع تطبيقها لا نجد خطة اقتصادية تقليدية، بل يجد مشروعا متكاملا لبناء الإنسان قبل بناء الأبراج وناطحات السحب.. والأمم العظيمة تُقاس بما تتركه فـي شعوبها من قيم وأخلاق وما تبنيه من مبادئ؛ ولذلك بدا جلالة السلطان المعظم فـي خطابه وهو يضع عقدا اجتماعيا: أن المواطن هو شريك فـي البناء، وليس متلقيا للمنجزات.

أضاء جلالة السلطان المعظم على مفاصل عدة، من التعليم إلى الاستثمار، لكنه ربطها دائما بفكرة مركزية: إن التحديات ليست عوائق، إنما أبواب تُفتح بالإرادة والعمل. وفـي دعوته لتحسين بيئة الاستثمار، وتطوير البنى الأساسية، وتعزيز ريادة الأعمال، كان، أعزه الله، يُعيد تعريف التنمية ليس كغاية اقتصادية، بل كوسيلة لتحقيق حياة كريمة تليق بمواطن أدرك قيمة وطنه.

وحينما تحدّث جلالة السلطان المعظم عن الشباب، كان الخطاب أشبه برسالة موجهة لجيل يبحث عن دوره فـي وطن ذاهب بثبات نحو المستقبل.. والشباب، الذين يتطلعون إلى المستقبل، يجدون فـي «رؤية 2040» طريقا واضحا يتقاطع فـيه الطموح الشخصي مع المسؤولية الوطنية والحضارية. إنها رؤية تجعل التعليم بوابة، والتدريب جسرا، والعمل ذروة السعي. لم يكن جلالته يُلقي وعودًا، بل كان يُعيد صياغة العلاقة بين الدولة والمواطن، بين الشباب وفرص الحياة.

ورغم الثوابت الكثيرة التي «نسجتها أمتنا العمانية» والتي «نرفض أي مساس بثوابتها ومقدساتها» كما تفضل جلالته وقال فـي خطابه إلا أن عُمان فـي رحلة دائمة نحو الأفضل، لكنها لا تُسقط من يدها راية التاريخ، وفـيما قاله جلالته رسالة واضحة: إن الأمة التي تُكرّم أجدادها، وتُحسن قراءة حاضرها، تستطيع أن تكتب مستقبلها بيدها لا بيد غيرها.. إنها عُمان، السيرة التي بدأت من عمق التاريخ السحيق نحو أضواء الحضارة، لتظل دائما الأرض التي لا تنحني أمام التحديات، بل تُعيد تشكيلها وفق إرادتها.

وفـي هذا الخطاب التاريخي لعاهل البلاد المفدى لم تكن الكلمات عابرة، بل كانت معاني ودلالات تُنقش على صخور هذا الوطن الصلدة لتكون شاهدة على لحظة يتحد فـيها التاريخ بالحلم، وتتجدد فـيها قصة عُمان التي لا تزال تُكتب وتعيش زمنها السرمدي.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق