تُعدّ تربية النحل من أقدم الحرف التي عرفها الإنسان، فهي فنٌّ وعلمٌ في آنٍ واحد، تُسهم في الحفاظ على البيئة واستدامة التنوع البيولوجي؛ إذ يقوم النحل بدور حيوي في تلقيح النباتات، فضلا عن إنتاجه للعسل، ذلك الغذاء الذي يُعدّ دواء وشفاء. وفي سلطنة عُمان تتجلى أهمية تربية النحل في عُمق العلاقة بين الإنسان والطبيعة، حيث يخوض مُربو النحل تجارب يوميّة مُتجدّدة، يكتشفون من خلالها أسرار هذه المخلوقات، ويُسهمون في الحفاظ على تراث عريق وَثقافةٍ مُتجذّرة في هذه الأرض الطّيبة.
في هذا الاستطلاع، سنُرافق عامر العامري ومحمد الراشدي في رحلةٍ إلى عالم النحل صناعة وتجارة، نَستكشف من خلالها بدايات الشغف في هذا المجال، والتّحدّيات التي يُواجهها العاملون به، والطموحات المُستقبليّة.
يبدأ عامر سرده عن كيفية دخوله عالم النحل، قائلا: «تعود بدايتي مع تربية النحل إلى فترة طفولتي، حيث كنت أرافق إخواني في رحلاتهم البحثية بحثا عن النحل المحلي، وخاصة النحل الجبلي المعروف باسم «أبو طويق». كانت تلك اللحظات تُشكل جزءًا من طفولتي، حيث تعلمت الكثير عن هذه المخلوقات العجيبة وأصبحت مولعًا بالتفاعل معها. مع مرور الوقت، بدأ شغفي يتطور، وفي مرحلة معينة، بدأت تفكير في الانتقال إلى تربية أنواع أخرى من النحل، التي تُعرف بقدرتها العالية على إنتاج العسل. كانت التجربة مليئة بالتحديات، لكنني كنت مصممًا على تحقيق هدفي. لحسن الحظ، تمت الأمور بشكل جيد، وتعلمت كل ما يتعلق ببيئة النحل واحتياجاته، مما ساعدني على تنمية مستعمرات ناجحة تُنتج عسلًا عالي الجودة. تلك الرحلة شكلت بداية مسيرتي في عالم تربية النحل، والتي لا تزال مستمرة حتى اليوم».
من جانبه، يقول محمد بن عبدالله الراشدي، تاجر عسل: بدأت رحلتي في تجارة العسل عندما رافقت أحد الأصدقاء، الذي كان لديه شغف بمهنة بيع العسل. في تلك الفترة، انطلقت في هذا المجال بصفتي شريكًا له، حيث أتاح لي الفرصة للتعرف على مزايا العسل وطرق فحصه والسوق التي يحتاجها في سلطنة عمان. كانت بدايتنا بسيطة، إذ قمنا بجمع بعض أنواع العسل وتعبئتها، ثم عرضناها في السوق، والحمدلله كانت النتائج مشجعة للغاية، ويستطرد: «مع مرور الوقت، تطورت تجربتنا واكتسبنا خبرات جديدة من خلال العمل المستمر والتواصل مع النحّالين والاطلاع على خصائص العسل المتنوعة. طوال ما يقارب 15 عاما، تغذت معرفتنا حول العسل وثقافته، خاصة وأننا كنا طلبة في جامعة السلطان قابوس».
الروتين اليومي
في ضوء الروتين اليومي، يصف العامري ما يتضمنه عمله: «يتمثل روتيني اليومي بصفتي مربي نحل في عدة مهام أساسية تضمن صحة وجودة المستعمرات. يبدأ يومي بمراقبة دقيقة لحالة النحل، حيث ألاحظ كيف يقوم النحل بجمع حبوب اللقاح وتخزينها. بالإضافة إلى ذلك، يكون من الضروري إدارة المساحة داخل خلايا النحل، بما في ذلك تخفيف الضغط عنهم. يتضمن ذلك إزالة البراويز الزائدة وتصغير حجم الصناديق عندما يتطلب الأمر، وذلك لضمان ملاءمتها لعدد النحل الموجود فيها. مع تغير الفصول، تتطلب طبيعة العمل بعض التعديلات. عندما يبدأ النحل في التأهب لجلب حبوب اللقاح وتبدأ الملكة بوضع البيض، يتعين علينا متابعة نشاطهم بشكل مكثف. كلما أضاف النحل زوائد جديدة، نعطيهم بروازا جديدا لبدء بنائه، مما يساعدهم على التوسع». ويضيف: أيضا، تعتبر تغذية النحل جزءا مهما من روتيني، حيث أقدم لهم التغذية التنشيطية في أوقات معينة لتعزيز قوتهم. ومن الروتين أيضا خيار نقل النحل من مكان إلى آخر إذا كانت الظروف البيئية أو المرعى ضعيفًا في منطقة معينة. هذا الانتقال يُعد ضروريًا لتحقيق الانطلاقة والنمو في الحجم، حيث يعمل على تكبير عش الحضنة وزيادة قوة المملكة. من خلال هذه العمليات والرعاية اليومية، أضمن أن تبقى مستعمرات النحل صحية ومزدهرة.
التحديات الكبرى في رعاية النحل
يُشير عامر إلى اللحظة الأكثر تحديا في مسيرته كمربي نحل، وهي لحظة التطريد، حيث يقول: «تُعتبر لحظة التطريد من أكثر اللحظات حيوية وتحديا في حياة مربي النحل، حيث تتطلب التركيز والانتباه الدائم. خاصة في الأيام التي تتساقط فيها الأمطار، يصبح نشاط النحل بشدة وغير متوقع، حيث ينطلقون انطلاقة عجيبة وسريعة. في هذه الأوقات، أجد نفسي في موقف عكسي؛ ففي الأيام العادية التي يكون فيها المرعى ضعيفًا، كنت أنا من يُسابق النحل للحصول على أكبر قدر ممكن من الإنتاج، بينما في حالات التطريد، تتحول الأمور ويسابقني النحل. أواجه هذه اللحظات من خلال القيام بإجراءات محددة. طوال الفترة الحرجة، أكون حاضرا في المنحل بشكل يومي، أتابع الخلايا عن كثب. إذا وجدت خلية تحتوي على بيوت تطريد، أبدأ على الفور في تقسيمها. أقوم بإخراج الملكة مع اثنين من البراويز المليئة بالنحل؛ لترحيلهم إلى خلية جديدة. أحرص على تنفيذ هذه الخطوات بعناية للحفاظ على استقرار المستعمرة». موضحا أن هذه اللحظات تمثل تحديا كبيرا، إذ يتطلب الأمر قضاء وقت طويل في المنحل لضمان سلامة النحل وتجنب الفوضى. ولكن -ولله الحمد- كانت تلك المرحلة مثمرة بالنسبة لي. رغم أن موسم إدرار الرحيق تأخر كثيرًا، إلا أنني تمكنت من بيع العديد من الطرود الكبيرة بفضل الجهود المبذولة خلال موسم التطريد. هذه التجارب وضعتني في موقع أفضل وجعلتني أكثر فخرا بعملي كمربٍ للنحل.
البيئة المحيطة
وحول إنتاج العسل يقول محمد الراشدي: «يعتمد إنتاج العسل في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك سلطنة عمان، على عدة عوامل طبيعية، مثل الجبال والأشجار المحيطة، بالإضافة إلى نوع النحل نفسه. فمن المعروف أن لدينا أنواعا عدة من النحل، مثل النحل البري أو المعروف باسم «أبو طويق»، وكذلك النحل المهجن الذي يُربى خصيصا لهذا الغرض. كما توجد أنواع أخرى قادرة على إنشاء خلايا كبيرة جدا في الغابات الاستوائية، حيث تتوفر وفرة من الزهور والبراعم والمياه، في ظل ظروف مناخية مثالية لإنتاج العسل.
في حين يشير إلى الاختلافات الناتجة عن البيئة قائلا: «تختلف جودة إنتاج العسل باختلاف البيئة، لذا نجد أن لكل منطقة خصائصها المميزة. ففي سلطنة عمان، هناك موسمان رئيسيان لإنتاج العسل يختلفان حسب الولايات، وهما موسم البرم أو السمر في شهر مايو، وموسم السدر الذي يحل في نوفمبر من كل عام. وعادة ما يعمل النحّالون مرتين في السنة وفقا لهذين الموسمين». ويضيف: هناك أنواع أخرى من العسل تُنتج في سلطنة عمان، مثل عسل الأعشاب، وعسل زهرة الربع الخالي، وعسل الغاف، وعسل الحرمل، وعسل الشوع، ولكن إنتاجها غالبا ما يكون أقل وفرة. كل نوع من هذه الأنواع يتميز بخصائص فريدة من حيث القوام واللون والطعم والرائحة.
جودة العسل
يتطرق العامري إلى كيفية تأثير خبرته في تحسين جودة العسل: «تعتمد جودة العسل بشكل كبير على خبرة النحال ومدى تمكنه من توفير بيئة ملائمة للنحل، ذلك يتضمن توفير مرعى غني ومتنوع بعيدا عن مصادر أخرى من المراعي، لضمان عدم اختلاط العسل. إضافة إلى أنه من الضروري تصفية الخلايا بشكل دقيق للتأكد من عدم وجود أي بقايا من العسل السابق، سواء كان ذلك من التغذية أو عسل الزهور مما يسهم في إنتاج عسل من الدرجة الأولى، كالعسل الناتج عن موسم السمر الذي يُعتبر من أفضل الأنواع».
ويضيف: «عملية إنتاج عسل عالي الجودة تتطلب الصبر، حيث يجب ترك العسل في المستعمرة حتى ينضج تماما قبل الحصاد. كما يجب على النحال أن يكون حكيما في التعامل مع المستعمرة بحيث لا يأخذ كل العسل، بل يترك كمية كافية للنحل لضمان استمرارية حياتهم. ينسجم ذلك مع مقولة: «خذ نصيبك واترك لهم نصيبهم». بعد ذلك، تأتي مرحلة تغذية النحل والعناية بهم، حيث يجب مراقبتهم بعناية وضغطهم جيدا، بالإضافة إلى نقلهم إلى مواقع جديدة إذا لزم الأمر عند نهاية الموسم لتعزيز الإنتاجية».
من جانب آخر يشير الراشدي إلى الصعوبات التي يواجهها النحالون في سبيل ضمان جودة النحل قائلا: «تُعتبر الجودة عنصرا حاسما وأساسيا في تجارة العسل، وتتحقق هذه الجودة من خلال مجموعة من عمليات الإنتاج التي تبدأ من المنحل. من المهم أن يكون مربي النحل شخصا موثوقا، وهو أمر يُعرف به العمانيون بشكل عام. في حين يصعب على النحال التركيز على التسويق ومشاغل التجارة نظرا لارتباطه بأمور رعاية النحل، لذا تتوزع الأدوار وفقا لمجالات اختصاص كل فرد. الحمدلله، تحسنت الظروف الآن، مما مهد الطريق لاستخدام القوى العاملة الوافدة في هذا القطاع، خاصة في عمليات الشحن والتفريغ، التي قد تكون مرهقة للغاية. ومع ذلك، يواجه النحالون الذين لا يستطيعون الاستفادة من هذه الموارد خطر التعرض لمشاكل صحية، وخصوصا في الظاهرة، حيث تُعتبر أمراض مثل الدسك وضعف المفاصل والأعصاب شائعة».
العلاقة بين النحال والنحل
ويتحدث عن العلاقة بينه وبين النحل، حيث يقول: «تتسم العلاقة بين النحال والنحل بالتناغم والتجانس، إذ يعتمد ذلك على كيفية تعامل النحال مع هذه المخلوقات العجيبة. فمن خلال الهدوء والترتيب وعدم إلحاق الأذى بالنحل، يمكن للنحال بناء علاقة إيجابية، حيث سيتجاوب النحل مع هذا الهدوء. بينما إذا كان أسلوب النحال قاسيا، مثل الضرب أو الإساءة للنحل، فسوف ينقلب هذا السلوك ضده، حيث يصبح النحل شرسا ومتوترا. فالنحل يتمتع بذكاء فريد، حيث يمكنه التعرف على صاحب الرائحة المعروفة لديه، ويستجيب للأصوات والاهتمام الذي يلقاه».
في حين يسرد تجربة تعامله مع النحل والأسرار التي تعلمها من هذا الكائن قائلا: «من خلال تجربتي، تعلمت أن النحل مخلوق نشط ونظيف للغاية. إذ لا يتقبل أن تكون مملكته متسخة من الداخل، مما يعلمنا أهمية الحفاظ على النقاء والنظام. كما أن طبيعة النحل العملية تُظهره كائنا مجتهدا، لا يعرف يوما للراحة أو الضعف في الإنتاجية. من خلال مراقبتي لنشاطهم المستمر، أدركت أن النشاط والإخلاص في العمل هما قيمتان أساسيتان يمكن أن نستفيد منهما في حياتنا اليومية».
مستقبل تربية النحل
ويعبر عامر العامري عن تفاؤله بشأن مستقبل تربية النحل: «فيما يتعلق بمستقبل تربية النحل، أرى أن هذا المجال سيحقق أهمية كبيرة في السنوات القادمة. يعتمد نجاحه على مدى كفاءة النحال وثقة المجتمع به. إذا كان النحال يقدم منتجا طبيعيا بنسبة 100% ويحظى بقبول وثقة الناس، فإن المستقبل سيكون مشرقا له حتى في ظل المنافسة من الخارج. وعلى العكس، فإن النحال الذي يعتمد على الغش أو الخداع لن يحظى بمكانة مستدامة، حيث سيفقد ثقة الزبائن بسرعة، مما يؤدي إلى ابتعاد الناس عنه وبالتالي فقدانه لشغفه بالعمل والمهنة. لذا، فإن الشفافية والالتزام بالجودة هما المفتاحان الرئيسيان لمستقبل زاهر في هذا القطاع».
الثقة بين التاجر والمستهلك
يسرد الراشدي في ختام حديثه تجربته في بناء الثقة مع الزبائن إذ يقول: «تمتع السوق المحلية بعدة منتجات تعتمد بشكل كبير على الثقة المتبادلة بين الزبائن والموردين، خاصة في مجالات العسل والسمن. إن هذه الثقة ليست وليدة اللحظة، بل تحتاج إلى وقت لاستدامتها، فضلا عن أسلوب لإقناع المستهلك وإعادة تأكيد ضمانات الجودة المقدمة. على سبيل المثال، يطلب بعض الزبائن منا كميات كبيرة من العسل، مثلما حدث مع أحد أصحاب مصانع الحلويات الذي طلب طنيْن من العسل. قبل تقديم الطلب، أبدى هذا العميل اهتمامه بالحصول على شهادة فحص للمنتج، وبفضل الله، تمكنا من توفير هذه الشهادة من خلال أحد المختبرات المعتمدة. تُعتبر هذه الطريقة غير تقليدية مقارنة بالأساليب المعتادة، التي تعتمد عادة على أن الناس يشترون المنتجات من موردين يثقون بهم ويطمئنون إلى جودة ما يقدمونه. لذا فإن بناء الثقة مع المستهلكين يعد أمرا بالغ الأهمية، حيث يسهم في تعزيز علاقة طويلة الأمد بين المورد والعميل، وهي أساس النجاح».
0 تعليق