في مواجهة مشكلاتها وظواهرها المتجددة؛ يستلزم على المجتمعات وضع سياسات وبرامج محددة لمعالجة تلك المشكلات، والحد من تلك الظواهر؛ غير أن تلك السياسات لا بد أن تكون مرتكنة إلى معايير محددة تحدد مدى فاعليتها، وقدرتها على معالجة مصادر تلك المشكلات والظواهر، وتوجيه المجتمع إلى الممارسات والأفعال والسلوكيات والأفكار المرغوبة بما يتسق مع ديمومة النسيج الاجتماعي، ويحافظ على استقرار تركيبة المجتمع، ويضمن عدم الوصول إلى حالة (الأنوميا الاجتماعية anomie) أو ما يُعرف بحالة فقدان المعايير. تستند تلك المعايير إلى طبيعة رسم السياسات الاجتماعية، وبالتالي فإن حالة (الاختصاص) ضرورية في هذا السياق، كما هي ضرورية في صنع أشكال السياسات العامة الأخرى من سياسات مالية واقتصادية وتجارية وسواها. لماذا نتحدث عن الاختصاص هنا تحديدًا؟ لأنه يشكل فعليًّا عتبة في بعض الدول، حيث يستسهل موضوع صنع السياسة الاجتماعية من قبل غير المختصين، فتغيب الأصول والقواعد الموجهة، وتقدم السياسة تدخلات قد تكون آنية وغير فعّالة على المدى البعيد في سياق تحقيق مقاصدها. هذا لا يعني إهمال إشراك التخصصات الأخرى في مناقشة ورسم السياسات، ولكن ما نعنيه أن تبدأ نقطة رسم السياسة الاجتماعية من غير ذوي الاختصاص فيها. تقول أليسون ماكليلاند: «إن السياسة الاجتماعية تتعلق بالنشاط الهادف إلى تحسين رفاهة المجتمع، وبالتالي فهي تتمتع بنطاق واسع، وتستخدم مجموعة من التخصصات، وتتداخل مع السياسة الاقتصادية، والسياسة العامة، والسياسة البيئية».
وفيما يتعلق بمعايير فاعلية ونجاح السياسات الاجتماعية فإن أحد أهم تلك المعايير هو التوافق على الأهداف السياسية لتلك السياسة؛ بحيث تتناغم المؤسسات في وضع أجندة السياسة، وتنطلق من ذات القناعات والأدلة والأرضية المشتركة في تحديد تدخلاتها ووضع البرامج التنفيذية لها؛ ففي الوقت الذي ترى فيه المؤسسات المعنية بالشؤون الاجتماعية أنه لا بد من تعزيز الإنفاق والبرامج التي تستهدف الاستقرار السكني للأسر في المجتمع؛ باعتبار أن غياب ذلك الاستقرار في السكنى مولّد للعديد من الظواهر والمشكلات المباشرة وغير المباشرة، فلا بد في الآن ذاته من تحقيق القناعة ذاتها لدى المؤسسات المعنية بشؤون تمويل التنمية، والقناعة ذاتها للمؤسسات المعنية بتنظيم المبادرات الأهلية والمجتمعية، والقناعة ذاتها لدى المؤسسات المعنية بتدبير الاقتصاد. وفي ظل غياب التوافق على الأهداف تظل السياسة الاجتماعية مجرد أطر نظرية بعيدة عن التحقق، أو في أفضل الأحوال تظل مجموعة مبادرات وقتية وجزئية غير ذات شمول أو ديمومة لتحقيق المقاصد المرجوة منها. ومن المعايير المهمة التناغم في التنفيذ؛ حيث لا يمكن أن تستهدف السياسة الاجتماعية على سبيل المثال (التمحور حول مقصد تحقيق النمو الاجتماعي الأمثل لمرحلة الطفولة) ولا تزال هناك فجوات في الجهود المؤسسية التي تحقق هذا المقصد، سواء كانت جهودا صحية أو تعليمية، أو تربوية أو سواها. من هنا تنشأ جدلية (ما الذي من الممكن أن يحقق هذا التناغم؟) هل يمكن تحقيقه من خلال سياسات تستخدم أعلى درجات الإلزام (التشريع)، أو من خلال هياكل مؤسسية (مجالس/ هيئات متخصصة..)، أو من خلال المراهنة على دور التنسيق المؤسسي عبر الآليات القائمة.
ومن المعايير المهمة لفاعلية السياسات الاجتماعية هو قدرات الرصد والتنبؤ وبناء الأدلة الاجتماعية، وهناك مؤشرات حول الحالة الاجتماعية تعَد أساسية في دوريتها وتوليدها، كما أن انتهاج آليات فاعلة للرصد الاجتماعي، والاستفادة من معطيات البيانات الضخمة، وتوظيف الاستدلال من خلال التنقيب في متغيرات البيانات الحكومية، وبناء دراسات ممثلة وموضوعية ومحكمة يمكن الاستناد إليها كل ذلك ينعكس لاحقًا على فعالية تنفيذ السياسة الاجتماعية وبرامجها. ونكاد نجزم أن فشل بعض السياسات إنما يرجع لعدم جدارة ونوعية الأدلة التي تقوم عليها تلك السياسة، والتي وجهت مساراتها والقرارات المتصلة بها إلى اتجاهات غير موضوعية أو غير دقيقة. تستند عملية صنع السياسات الاجتماعية أيضًا إلى ضرورة صنع هدف عام (ما هو المجتمع المراد الوصول إليه؟)، وهذا مهم جدًا كعامل رئيسي تتمحور حوله برامج السياسات الاجتماعية، في سياق مجتمعاتنا الخليجية على سبيل المثال فإن تحقيق الرفاه الاجتماعي يمكن أن يكون موجهًا لهذه السياسات، ولكن لا بد أن يعالج كل مجتمع هذه الثيمة بناء على طبيعة التركيب الاجتماعي والاقتصادي والمقاصد السياسية العامة، والأهم من ذلك المحافظة على السمة الثقافية للمجتمع. يقول جوزيف ستيجليتز «إن دولة الرفاهة ليست مجرد مسألة عدالة اجتماعية. ومع ذلك، أعتقد أن الحجة الأكثر إقناعًا لصالح دولة الرفاهة تتجاوز هذه الحجج الاقتصادية الضيقة. بل إنها تتجاوز حتى الحجج التقليدية لصالح العدالة الاجتماعية. والسؤال المطروح هو: أي نوع من المجتمع نرغب في العيش فيه، وأي نوع من الأفراد نرغب في أن نكون؟».
إن حشد جهود المؤسسات الرسمية والأهلية، ووضع مؤشرات واقعية مقرونة بالتقييم المستمر، ووجود إطار جاد لقدرات تصميم وتنفيذ السياسات الاجتماعية، ووجود مقاربات وبرامج تنفيذية لا تركز على مجرد الأطر الظاهرة للمشكلات الاجتماعية بل تذهب إلى معالجة جذرياتها القيمية والثقافية، وتنويع موارد الوصول إلى المجتمع، والاستثمار في الفرص التي تتيحها أبحاث وتجارب العلوم السلوكية لتغيير السلوك الاجتماعي، والاستفادة من فرص تطور علم البيانات لبناء قواعد ونظم تتبع للمؤشرات والحيثيات الاجتماعية لتوفير أدلة اجتماعية قوية، كل هذه العناصر تكمل المعايير الأساسية لنجاح وفاعلية السياسات الاجتماعية والبرامج المنبثقة عنها. وكل ذلك يبقى مرهونًا بوجود الإرادة السياسية الداعمة لصنع سياسات اجتماعية محكمة والرقابة على تنفيذها، ومدى أولوية وموقع السياسة الاجتماعية وسط منظومة السياسات العامة الأخرى.
مبارك الحمداني مهتم بقضايا علم الاجتماع والتحولات المجتمعية فـي سلطنة عُمان
0 تعليق