حادي النصوص - ستاد العرب

0 تعليق 0 ارسل طباعة تبليغ حذف

ليس لك وأنت تتأمَّل اختبار محمّد الهادي الطرابلسي لنُصوصٍ من منتخبات أدب العرب إلاَّ أن تقف على ذاتٍ قد امتصَّت رحيق هذه النصوص وتعقّلتها وهامت بها وأخرجت منها ما خفـي وما بطن، تجَّاوز السطحيّ والإجرائيّ إلى إعْمال آلاتٍ مُخصبة، منتجة، أهمّها، آلةٌ لا تتوفَّر بيُسْرٍ لكلّ الدَّارسين والباحثين، مهمَا استوعبوا النظريَّات وأدركوا عمقها وحسن عملها، وهي آلة الإحساس بالنصّ، وتعرّف الإصغاء إليه.

يُنْصِت محمد الهادي الطرابلسي بسجودٍ للنصوص، يسمع وقْعَها وتنتهي إليه أصْباغُها وألوانها وزينتها، حليّها والمتن، يصيخ بحكمة وإحكامٍ لتجاويف المعاني، ولما تخفّى منها فـي طيّاتٍ الكلام والصُّور والأنغام.

يُتقن الظَّفر بخيْط النصّ النّاظم، فلا تخرجُ النصوص التي يُرشِّحها للنظر والدَّرْس وَجْهًا واحدًا، وإنَّما هو ظافرٌ من كلِّ نصّ بما به قام وتهيَّأ وتفرَّد. نُصُوص عدد تمعَّنها الطرابلسي، ونضا عنها غلال الصّمت وبلغ منها ضياء الجسد وعمق مُتَعه، فأثارَ نصوصًا خامدة، وحرَّك أصولًا مهجورة، وبنى فصولًا أقامت بحوثًا وبُحَّاثًّا، وفتَّحت من ثنايا البحث ما كان مغمورًا.

حمل من زاد النظريَّة أسلوبيَّة شرب من معينها، وسلك من سبيلها البدايات، فكان من الفاتحين، الآخذين من رحيق الأصول، العاملين على فصوص المتون. يعود إلى متنوِّعٍ من الآثار، ينتقي منها عيونًا، لا تراها العيون، يُعْمِل من الأسلوبيّة ما رحقه، ومن النقد العربيّ ما ورثه، ومن اللّغة ما علمه وأتقنه، ومن إدراكه وثاقب رؤيته ما يُفرده ويقدُّ خاصّ سبيله. تراهُ يقرَأ ابن رشيق قراءة العالم الثاقب، ويقف على «المثل السائر» لابن الأثير وقفة البليغ العارف بأصول نقد العرب، حامل الرؤية فـيه والرأي، يُفَصِّله إلى صنفـين، مؤلّفات الوعي النقديّ، ومؤلّفات الرأي النقدي، ويقرأ جبران خليل جبران بعين معاصرة، فـيقف على أسلوبه وطرائق قوله، ويُمسك من نصوصه خيوطًا لا يراها إلاّ الضّالعون فـي علم النصّ.

عديدةٌ هي النصوص التي رشَّحها الطرابلسي للتحليل والدّرس، ومتنوِّعةٌ أجناسُها وأخلاطُها وأزمنتها، منها الشعر، وهو الأصلُ والمنبَع، ومنها النثرُ وهو صنوٌ وضريعٌ، ومنها القديمُ يبعثه من رماده فـيحييه بعين الحادث الآخذ من القديم علمًا وتفصيلًا ورؤية ومقامًا، والآخذ من الحديث أداةً وإجراءً وعينَ مُعاصِر، ومنها ما هو داخلٌ فـي الأدب الحديث، يقف على نُخبه التي نخَّبها، وعلى عيونه التي جعلها عيونًا ورؤوسا.

أحمد شوقي شاعرٌ حديثٌ، أراده محمد الهادي الطرابلسي أن يكون مدوّنته، وشاعره الملازم له، وأديبه المرافق لمختلف مراحل حياته، وقد يشابه الناقد أديبه، ويحتمي المنظِّر بالمدوِّن، وتجتمع ذات المبدع مع ذات الباحث الناقد، فـيتآلفان، ويطمئنُّ الباحث لأديبه، فـيجَّوِز النصَّ إلى الناصِّ بل إلى الإنسان، يُفارِقُ أسلوبَه وشعره ونثرَه، يتخطَّى البنيان، لينفتح على الإنسان، فـي مواقفه وصِلاته ومعتقداته ونزاعاته.

بدأ النظر فـي أسلوبه وانتهى إلى النظر فـي الثقافة وفـي التَّلاقي. أحمد شوقي كان بابًا وسيعًا وهبه الطرابلسي حياته نظرًا وتقليبًا وإعادة درْس، غير أنَّه لم يقصر مدوَّنته عليه، ولم يقف على حدِّه شكلًا ومعنًى ومرْجعًا، بل فتَّح تحاليله على قديم الشعر، على البحتري، يُقيم لهُ حجَّةً ودليلًا من وَقْعِ لغته وإيقاع أصواته، ناظِرًا فـي صِلة الصوت بالمعنى فـي قراءة «السينيّة» وعلى قديمِ النثر يُفكِّكُ جمال وصْف الحيْرة الوارد فـي كتاب الأغاني بالكلام على الجمال، ويقف على وصْفٍ للعاصفة متعهِّدًا ما يُمكن أن يحتويه النثر من إيقاعٍ، سجْعٍ، جعله فـي اعتقاده التحليليّ نوعًا من الأدب وشُعبةً، لا وسيلة وطريقةً وأداةً، أمَّا حديث الشعر، فلهُ فـيه توسُّعٌ وبيانٌ، يجول من مصطفى خريف إلى السيّاب، إلى الشابّي، إلى جبران، لا يحدّهُ توجُّه، ولا تُعَطِّله حداثةٌ أو قِدَمٌ.

فـي هذا الكون الأدبيّ النصّيّ، الحافل شعرًا ونثرا، يظلّ أحمد شوقي النصّ الباقي يُلازمه، يُثيره فـي أسلوبيّته، ويعود إليه باحثًا فـي جمال «ثقافة التلاقي» فـي عموم أدبه.

لقد مثَّل شاعرُ الإحياء أرضيَّةً شعريَّة وسيعة الإخصاب، ومدوَّنةً خصَّها محمّد الهادي الطرابلسي بأدواته الأسلوبيَّة التي أعْملها فـي بحثه الذي أخذ منه زمنًا وجهْدًا وتُلُقِّيَ التلقِّي الحسن شرقا ومغربًا، وعُدّ المبحث المرجعيّ الأساس لكلّ مُقْبِل على دراسة شوقي أوَّلًا، ولكلّ مقبِلٍ على اكتساب أدواتٍ فاعلة ناجعة لإنطاق الشعر، كتاب «خصائص الأسلوب فـي الشوقيَّات»، هو فتْحٌ مبينٌ فـي الدرس النقدي، وإثراءٌ وسيعٌ لشعر شوقي، وتقريبٌ عمليّ لإجراء الأسلوبيّة على الخطاب الشعريّ. لم يكن أحمد شوقي قبل دراسة الطرابلسي، سوى شاعرٍ عَلَم، مُتنازَع فـي قُدرته الشعريّة، واقع بين مطرقتين، مطرقة الجذب إلى السَّلف، ومطرقة الرفض التجديديّ، وقد وقف شقٌّ من النقد الحديث المحتفـي بالحداثة الشعريَّة لافظًا شعر شوقي، رافضًا دراسته، باعتباره صورة ناسخة لأصول الشعر القديم، إلى أن جاءت دراسة الطرابلسي، وأثارت منه مباحث، وفتَّحت عقول الدّارسين على أبوابٍ مكتومةٍ من كتابة شوقي تحتاج مديد نظر وعميق اختبارٍ.

ولقد وقف الطرابلسي على هذا التنازع فوصفه قائلًا: إنَّ طرافة أشعار «الشوقيّات» فـي النزعة التقليديَّة بالذات، وطرافة الشعر عندنا لا تتوقَّف ختْمًا على جديد المقول بقدر ما تتوقَّف على إجادة الشاعر فـي القول. والشعر الحقُّ هو ما كان ذا نزعات عتق وأصالة تمنحه شرعيَّة الوجود وتسمح له بإمكانيّة الانتساب إلى تراث اللُّغة التي نظم بها، درس شوقي من باب اللّغة المُجراة، والأساليب المتوخّاة، وقلب النظر والإجراء، فصدر عن الاختبار على نقيض ما يُعْمَل فـي الدرس الأكاديميّ، ليبلغ التنظير والتجريد، وهي شيم كبار العلماء، أن يمتلكوا النظريَّة، فـيُعْمِلونها ويعملون بها، يُجرونَها ولا يجرون خلفها، يُسيطرون عليها ولا تمتلكهم وتأخذهم. كان شعر شوقي هو الهدف والمقصَد، وما النظريَّة إلاّ أداة ونهج وسبيلٌ. ينظرُ فـي شعر شوقي، يخبز عجينته، يتنفّسه، يتذوّقه، ويصل به إلى أنّه تتويجٌ لعلوّ شعرنا القديم، وبلوغٌ لذروة طريق فـي الشعر علا فـيها المتنبي وابن زيدون وامرؤ القيس والأعشى والنابغة وأبو تمام وغيرهم من ملوك شعر العرب، ينتهي إلى الإقرار أنّ شوقي هو ختْم هذا الشعر وقفله، وهو المحتوي لكلّ جواهره، يقول فـي ذلك: «إنَّ خصوصيَّة ديوان شوقي كونه خلاصة العطاء الذي قدَّمته الأجيال العربيَّة المتلاحقة فـي فنّ الشعر. إنَّه مُلحة الختام لقصَّة الشعر الحقّ عند العرب ونقطة النهاية لعملٍ اكتمل أحسن الاكتمال»، فهل اكتمل الشعر القديم، وأُقْفِل بشوقي؟

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق