تشغل قضية التطرف العالم أجمع، حتى كأنها صارت أكبر القضايا التي تهدد استقرار المجتمعات وأمنها ومسارها نحو المستقبل. هذا الأمر يطرح أهمية قراءة هذه القضية بشكل عميق يذهب إلى أصل نشوء التطرف وأسبابه.
لقد شهد العالم خلال القرن الماضي تداخلًا كبيرًا في الحدود بين الهويات الوطنية والثقافات التي أنتجتها العولمة ما جعل الأنظمة رهينة لتحولات اقتصادية غير مستقرة، وجد فيها التطرف مساحة مناسبة ليعيد إنتاج نفسه بوصفه نتيجة مباشرة لاختلالات أعمق في العلاقة بين الدولة والمجتمع، وبين الهوية والانتماء، وبين السلطة والفرد. ولأن كل فعل عنيف يستبطن داخله سردية تبريرية، يصبح من الضروري ألا نكتفي بإدانة الظاهرة في مظاهرها السطحية، بل أن نتعمق في بنيتها، وفي نشأتها، وفي المناخات التي تجعلها ممكنة. وقدّمت الكثير من الدراسات المتخصصة التي قرأت البُنى الإمبريالية وأثرها في تشكيل الهويات المشوهة، فهمًا جوهريًّا لمشكلة التطرف، خلصت إلى حقيقة أن الإقصاء الثقافي والاقتصادي عادة ما يولّد لدى الأفراد والجماعات شعورًا مستمرًا بالاغتراب، يُنتج بدوره نزعة رفض جذري تجاه منظومة الحداثة السائدة. فالحداثة، التي تُقدَّم غالبًا بوصفها مشروعًا تحرريًّا، كانت -في كثير من الحالات- مشروعًا إقصائيًّا فرض نفسه من خلال العنف الرمزي والمادي، ما أدى إلى خلق توترات لم تُحسم بعد، بل أُعيد إنتاجها في أشكال مختلفة، من الإرهاب العابر للحدود إلى القوميات الانعزالية، ومن التطرف الديني إلى التطرف الأيديولوجي. إن مقاربة التطرف العنيف من زاوية أمنية بحتة تفشل في إدراك التعقيد الذي يحكم هذه الظاهرة؛ فالعنف لا ينشأ في فراغ ولا من فراغ، وإنما هو رد فعل على منظومة يشعر الأفراد بأنها سلبتهم القدرة على تقرير مصيرهم، سواء عبر السياسات الاقتصادية، أو الأنظمة التعليمية التي تكرّس الامتثال على حساب التفكير النقدي، أو الإعلام الذي يُعيد إنتاج الصور النمطية، أو حتى المؤسسات الدينية التي تفرغ الخطاب الديني من أي محتوى تحرري ليصبح أداة لتبرير الصور النمطية لا لمساءلتها.. في هذه البيئة، يصبح العنف، بالنسبة للبعض، الوسيلة الوحيدة لفرض الذات، حتى لو كان ذلك عبر التدمير الذاتي والجماعي.
لكن السؤال الجوهري هنا: كيف يمكن للمجتمعات أن تتصدى لهذه الظاهرة دون أن تقع في فخ القمع أو إعادة إنتاج أسباب التطرف ذاتها؟ إن الإجابة لا تكمن في حلول جزئية، بل في تبنّي نهج فكري وسياسي يستهدف الجذور لا الفروع، وهذا يعني ضرورة بناء أنظمة تعليمية تُحرر العقول لا تقيّدها، وسياسات اقتصادية تُقلّص الفجوة بين الفئات الاجتماعية بدل أن تعمّقها، ومؤسسات ثقافية تُعيد الاعتبار للفكر النقدي كممارسة يومية لا كترفٍ نخبوي.
إن سلطنة عُمان أحد النماذج المهمة التي لا بد أن تُقرأ عالميًّا في سياق فهم آليات التعامل الناجح مع التطرف والعنف؛ فهي أحد النماذج الناجحة التي استطاعت بكثير من الكفاءة أن تخلق توازنًا بين ترسيخ الهُوية الوطنية والانفتاح على العالم، وبين صيانة الاستقرار وتعزيز الحريات، وبين الالتزام بالقيم الأصيلة والانخراط الواعي في العصر الحديث. وهذه المقاربة باتت اليوم ضرورة وجودية في هذا العالم الذي يتآكل فيه المعنى وتتصاعد فيه التوترات التي إن لم تُفهم أسبابها بعمق ستظل تنتج العنف في صور أكثر تعقيدًا وخطورة.
ولا بد من فهم أن مقاومة التطرف ليست حربًا على أشخاص أو جماعات، بل هي معركة طويلة مع المفاهيم المشوهة، ومع الهويات المضطربة، ومع بنى القهر والظلم التي تجعل العنف خيارًا ممكنًا، بل في بعض الأحيان خيارًا وحيدًا، ولأن الفكر هو السلاح الأول في هذه المواجهة، فإن أي جهد لا ينطلق من تفكيك التناقضات العميقة في هذا العالم الذي نعيشه، سيظل مجرد استجابة سطحية لمشكلة لا تزال تتجذر في صميم الحداثة ذاتها.
0 تعليق