في كتابه الجديد الصادر عام 2024م، بعنوان" الطريق نحو الحرية والمجتمع الصالح"، يعود الاقتصادي جوزيف ستيجليز Joseph E. Stiglitz الحائز على جائزة نوبل للعلوم الاقتصادية عام 2001م، لمناقشة العلاقة الوثيقة بين الاقتصاد والحرية ودورهما في تشكيل مجتمع جيد، وصالح، يحافظ على الحريات الفردية، ويمنح الآخرين الفرص الكافية لتحقيقها أيضاً. ولأجل ذلك، يعود للمفاهيم الفلسفية وتحديدا ً للمفكر أزايا برلين Isaiah Berlin حول مفهومه للحرية التي يذهب فيها إلى "أن الحرية للذئاب تعني الموت للخرفان"، كما يعود أيضا ً للتراث الاقتصادي مع فريدريك هايك أو حايك Friedrich Hayek وكتابه "الطريق للعبودية" والذي كان ضد الإشتراكية. كما يأخذ القارئ في جولة واسعة حول التفكير الاقتصادي والتاريخ الاقتصادي الحديث، والتي تشمل الجميع من جون ستيوارت ميل إلى هايك وميلتون فريدمان - مؤلف كتاب "الرأسمالية والحرية" عام 1962م، والذي كان لفترة طويلة الكتاب المقدس للسوق الحرة، وصولا ً إلى رونالد ريغان ودونالد ترامب.
يسعى هذا العمل للإجابة على سؤال أساسي: ما هو نوع النظام الاقتصادي الأكثر ملاءمة لمجتمع جيد؟ حيث يرى بأن هناك تاريخ طويل من الإجابات الفاشلة. فقد اتسم النظام الإقطاعي بتركيز عالٍ للسلطة والثروة، وانخفاض النمو الاقتصادي، وبطء التقدم الاجتماعي. ونجحت الشيوعية في توليد قدر أعظم من الأمن والمزيد من المساواة في السلع المادية، ولكنها فشلت في نواحٍ أخرى، بما في ذلك انخفاض النمو الاقتصادي، وغياب الحرية في جميع الأبعاد، وتركيز السلطة، وعدم المساواة في مستويات المعيشة بشكل أكبر مما يعترف به الحكام الشيوعيون. في حين أن الليبرالية الجديدة، النظام الاقتصادي السائد في الغرب على مدى السنوات الأربعين الماضية، يُنظَر إليها على نحو متزايد باعتبارها فشلاً اقتصادياً لأنها جلبت نمواً أبطأ وتفاوتاً أكبر مقارنة بالعقود السابقة. فقد أدت إلى زيادة الاستقطاب المجتمعي، وخلق مواطنين أنانيين وماديين وغير أمناء في كثير من الأحيان، وساهمت في انعدام الثقة المتزايد. وعلى الرغم من تضمين مفهوم الحرية في اسمها (الليبرالية الجديدة)، إلا أنها لم تقدم حريات ذات مغزى لجزء كبير من السكان.
في هذا العمل بفصوله الثلاثة وأقسامه 14 يناقش المؤلف كيف فكر الاقتصاديون في الحرية، وتحديدا ً كما سبق القول لدى هايك وميلتون فريدمان، فالرأسمالية غير المقيدة بالنسبة لهما مرغوبة ليس فقط بسبب كفاءتها ولكن أيضاً لأنها تعزز الحرية، وذلك من خلال حديثهما الدائم عن "الأسواق الحرة"، ولذلك ينطلق من سوق الأسلحة في الولايات المتحدة الامريكية وحق حيازة الأفرد للأسلحة، والمخاطر المترتبة على بقية أفراد المجتمع من ذلك، خصوصا ً في بعض الولايات مثل تكساس والتي يتفوق حق حيازة الأسلحة على أهمية حياة الكثير من الأفراد، لذلك يرى مثل أزايا برلين "بأن حرية أصحاب الأسلحة تعني في كثير من الأحيان الموت لأطفال المدارس والبالغين الذين قتلوا في عمليات إطلاق نار جماعية." الأمر الذي يعني ضرورة إعادة التفريق بين الحرية والليبرالية في ضوء العوامل الخارجية المختلفة، والتي اختلفت لحد كبير عن العوامل التي كانت سائدة في عصور المفكرين المؤسسين في هذا الجانب. وذلك من خلال عدد السكان الهائل والمتزايد من جانب، والتغير المناخي الذي أثر على العالم ككل من جانب ثان، والأزمات الاقتصادية التي تؤثر على العالم عامة من جانب ثالث، وغيرها من العوامل المتداخلة في هذا الشأن.
لذلك تأتي التأثيرات الخارجية في مسألة الفعل البشري كعامل لا يمكن تجاهله، فهي موجودة في كل مكان، وربما في الفترة الحالية أصبحت بارزة أكثر من السابق في الكثير من جوانب الحياة المختلفة، وهي بهذا المعنى من الممكن أن تكون سلبية وإيجابية في نفس الوقت، وبشكل ٍ خاص مع تزايد الجانب التمويلي في الاقتصاد، وتحديدا ً بعد أزمة عام 2008م العالمية، التي أدت بدورها لزيادة التأثيرات الخارجية على كل مناحي الحياة المختلفة. من هنا يرى المؤلف ضرورة إدارة التأثيرات الخارجية والتي يعتبرها من أسس العميقة للحضارة. وذلك بالرغم من الحضور الكبير والطاغي للأنانية الفردية، والرغبات الكبيرة في المصلحة الشخصية التي تسلك الكثير من المسالك التي تتنافى ولا تتفق مع مصالح وتوجهات الآخرين.حيث ينظر إليها على أنها بطريقة وبأخرى القاعدة وليس الاستثناء، وهو ما يتخلف عن التوجهات المحافظة للاقتصاديين المذكورين أعلاه، الذين يرون بأن هذه التأثيرات الخارجية هي الاستثناءات التي يمكن تجاهلها مقارنة بالقواعد والأحداث الثابتة المتكررة. الأمر الذي يعني بأن الحل التنظيمي The Regulatory Solution ، هو الحل المناسب والناجع للتقليل من التأثيرات الخارجية. وليس الرأسمالية أو الليبرالية الجديدة، أو الأيديديولوجيا المتأصلة في المجتمع. فبدون هذا الحل التنظيمي الذي يقوم بعيدا ً عن الإكراه، من الممكن أن تنعدم القواعد اليومية المعتاد عليها، كالسياقة من اليسار بدلا ً عن اليمين، أو العكس، وبالتالي من المحتمل أن تسود الفوضى وتتعطل المصالح المختلفة للبشر. غير إن الإكراه ليس بالضرورة سلبيا ً أو له انعكاسات سيئة، فهو الطريق الممكن الذي تتخذه الحكومات للقيام بالكثير من المشاريع ذات المصلحة العامة، كالمشاريع الصحية، والإسكان وغيرها.
ولكن كيف يحدث ذلك؟
من الممكن أن يحدث ذلك عن طريق الإكراه كما سبق التلميح لذلك، غير أن "التنسيق" بين مختلف أطراف المجتمع، والأفراد المتأثرين بهذه القرارات، سواء ً بشكل ٍ مباشر أو غير مباشر، يساعد على تعظيم التفاعل بينهم، ووضع هذه القرارات في الجانب الإيجابي، حيث يرى المؤلف، بأن الكثير من النتائج السلبية الصغيرة والكبيرة على حدٍ سواء، تحدث بسبب غياب التنسيق الكافي بين الجوانب المعنية بالأمر. ومن هنا نحن بحاجة للتنسيق المنظم Systemic coordination، والذي يهدف لوضع الأمور في نصابها، وعدم استغلال الشركات وأصحاب رؤوس الأموال الجشعة لحاجات الناس الماسة والضرورية. وهو بذلك يقترب من "اليد الخفية" لآدم سميث، الذي يرى بأن السوق الحرة تقوم بهذا الدور بشكل ٍ طبيعي، للتوازن بين معادلات العرض والطلب. يتجسد ذلك بشكل ٍ كبير في العقود التي يبرمها الفرد على المستويات الفردية الصغيرة كالعمل مثلاً من جهة، وعلى المستويات الجماعية الكبيرة كالتعاقدات الضمنية مع الدولة والجماعات التي ينتمي إليها من الجهة الأخرى، وهي التي تؤثر بطريقة أو بأخرى على الحرية والعقد الاجتماعي وغيرها من الحقوق البديهية في الدول الديمقراطية الحديثة.
ولكن ما هي انعكاسات ذلك على الحرية والعقد الاجتماعي؟
يرى ستيجليز بأنه "عندما يوقع الأفراد على عقد، فإنهم يوافقون على القيام بشيء ما؛ ويقيد هذا العقد حريتهم في التصرف في المستقبل في مقابل شيء من الطرف الآخر. حيث يوافق الأفراد طواعية على مثل هذه القيود لأن التبادل بأكمله يعود عليهم بالفائدة، تمامًا مثل "الإكراه" الذي قد تفرضه الدولة لتنظيم إجراءات معينة أو لإجبار الناس على دفع الضرائب لتمويل الاستثمارات العامة التي تجعل الجميع في وضع أفضل". فمن الناحية المبدئية، يرى المؤلف بأن العقود ليست تقييدا ً لحرية تصرف الأفراد، بقدر ما تمنحهم الفرصة الجيدة لضمان حقوقهم في ظل تقلبات السوق وتوحش رغبات الشركات المتعددة الجنسية الربحية. حيث أن هذه العقود، وبشكل ٍ خاص عقود الاقتراض، تضمن بقاء قدرا ً معينا ً من دخل الفرد بعيدا ً عن الاقتطاع الشهري.بهذا المعنى، تضمن هذه العقود ليس الوجبات فقط، بل الحقوق أيضا ً.
وبالرغم من الفروقات الجوهرية الكبرى بين العقود التجارية والشخصية التي يعقدها الفرد مع مختلف المؤسسات التجارية وغيرها، وبين العقد الاجتماعي المبُرم مع الدولة والجماعة، حيث نجد أن العقود ذات الصفة الأولى تواجه الفرد بعقوبات مباشرة صارمة، في حين أن الثانية قد تُعرض بعض الأنظمة للتوسع أو الإنهيار إذا قرر الفرد مواجهتها والخروج عنها بطريقة أو بأخرى.
وكما ناقش الجزء الأول من هذا الكتاب الحرية من خلال مجموعة الأدوات القياسية التي يستخدمها خبراء الاقتصاد، على سبيل المثال، كالمقايضات، والتأثيرات الخارجية، والسلع العامة، ومشاكل التنسيق. وقد أوضح أن كل مجتمع لابد أن يفرض القيود، وأنه في بعض الحالات، قد يؤدي الإكراه المحدود إلى تحسين أحوال الجميع، بينما قد تكون هناك مقايضات في حالات أخرى ــ حيث يربح شخص ما، ويخسر الآخر، بحيث تكون حرية شخص ما بمثابة حرمان شخص آخر.فإن الفصل الثاني يناقش علاقة الحرية بالمعتقدات، التفضيلات الشخصية، وطرقها في خلق المجتمعات الجيدة. وهذا يشير إلى أن الأفراد يتغيرون بمرور الوقت، وبالتالي تتغير معهم أذواقهم، ميولهم، وتفضيلاتهم، وهو ما ينعكس على اعتقاداتهم الدينية والشخصية على حد ٍ سواء. يتناول الفصل الثاني بمزيد من التفصيل كيفية تشكيلنا للمعتقدات والمعضلات والمخاطر المرتبطة بالإكراه الاجتماعي. ورغم أنه يثير بعض الأسئلة التي يصعب حلها كما يقول المؤلف، فإن ما يتبين بوضوح أكبر هو أن الشكل الحالي للرأسمالية ــ الرأسمالية الليبرالية الجديدة غير المقيدة ــ يشكل الناس بطرق لا تمثل نقيض المجتمع الصالح فحسب، بل إنها في الواقع تقوض الرأسمالية. فالتفضيلات تنشأ بناء على التجارب الشخصية للأفراد، التي ينُظر إليها على أنها ذاتية المنشأ، فهي تحدد بدرجة كبيرة بالمحيط الاجتماعي للفرد، ومن خلال العوامل الجماعية، ولا يقتصر الأمر على الآباء والمعلمين فقط.
غير أن السؤال الأساسي الذي يطرحه المؤلف هنا، ما هي الأسباب التي أدت لفشل الرأسمالية الجديدة؟ وبالرغم من تقديم إجابات كثيرة حول هذا السؤال، يضعها البعض في عدم تنفيذ أطروحات الرأسمالية الجديدة، والتي يرى المؤلف بأنها لو طُبقت لكانت الأمور أسوأ من الأوضاع الحالية، وذلك من خلال اقتراحات اقتصاديين كبار في هذا الجانب، إلا أنه يورد عددا ً من العناصر كالاستغلال والمنافسة، وهي تختلف بين المفهومين الأمريكي والأوروبي.
في الختام، يطرح المؤلف سؤالا ً حول قدرة النظام السياسي والاقتصادي على تصحيح نفسه من الداخل مع الأخذ بعين الاعتبار العوامل والمؤثرات الخارجية التي تعيق هذا التصحيح. حيث يرى بأنه بحاجة للكثير من التنظيم هنا، والتنسيق بين الأفراد والقوى الفاعلة هناك، والاستثمار في التعليم أيضا ً، وعن طريق قليل من التعديل في سياسات أخرى هناك، سوف يتم استعادة الرخاء والتماسك الاجتماعي. وهذا لا يحدث من فراغ، بل يتحقق بسبب تضافر الكثير من العوامل المتداخلة، والمقارنات التاريخية المختلفة، التي ترى بأن الأنظمة لها تاريخ بداية وتاريخ نهاية إن لم تستجب لمتطلبات وتحولات العصر وتحدياته المختلفة.
• علي سليمان الرواحي كاتب ومترجم عماني
0 تعليق