مستقبل التعاون الاستخباراتي الأمريكي في ظل إدارة ترامب الثانية - ستاد العرب

0 تعليق 0 ارسل طباعة تبليغ حذف

ترجمة : نهى مصطفى -

تشكل الدبلوماسية الاستخباراتية عنصرًا أساسيًا، وإن كان غالبًا ما يعمل في الخفاء، من عناصر القوة الوطنية. تمتلك واشنطن عددًا من شركاء في الاتصال الاستخباراتي أكثر مما هو معلن، إذ ان العديد من الدول، وحتى بعض الجماعات غير الحكومية، التي لا ترغب في الظهور بمظهر المتواصل مع المسؤولين الأمريكيين، تظل على اتصال مع حكومة الولايات المتحدة عبر قنوات سرية. عادة، لا تتأثر قنوات الاتصال الاستخباراتي بالتغيرات في السياسة الدولية أو التحولات في السياسة الخارجية؛ فالإدارات تتغير، لكن تدفق المعلومات الاستخباراتية يستمر دون انقطاع. ومع ذلك، في بعض الحالات، تكون التطورات السياسية درامية للغاية لدرجة أنها تؤثر على التعاون الاستخباراتي.

في أوائل السبعينيات، خفّضت إدارة نيكسون مؤقتًا تبادل المعلومات الاستخباراتية مع المملكة المتحدة، وذلك بسبب قرار لندن إعطاء الأولوية لعلاقاتها مع الدول الأوروبية استعدادًا للانضمام إلى المجموعة الاقتصادية الأوروبية، التي كانت آنذاك نواة الاتحاد الأوروبي، إلى جانب الاستياء الأمريكي من موقف بريطانيا الفاتر تجاه دعم إسرائيل خلال حرب أكتوبر.

وفي عام 2013، عندما كشف المتعاقد السابق مع وكالة الأمن القومي، إدوارد سنودن، أن الولايات المتحدة كانت تجمع معلومات استخباراتية عن قادة بعض حلفائها الأوروبيين وتتجسس عليهم فعليًا، توترت علاقاتها مع العديد من الدول الأوروبية، وإن كان ذلك لفترة وجيزة. واليوم، قد تؤدي ولاية ثانية للرئيس دونالد ترامب إلى إحداث اضطرابات جديدة في التدفق الروتيني للمعلومات الاستخباراتية بين واشنطن وحلفائها.

في ظل الظروف المثالية، تُسهِّل أهداف السياسة الخارجية المشتركة، والتحالفات العسكرية، والرؤية العالمية المتوافقة بين الدول، بما في ذلك قياداتها، تنسيق الاتصالات الاستخباراتية. ومع ذلك، فإن نهج الرئيس دونالد ترامب تجاه النظام الدولي وبنيته الأمنية قد ألقى بظلال من الشك على هذه القواسم المشتركة الضرورية بين واشنطن وشركائها.

يشعر بعض حلفاء الولايات المتحدة بالقلق من احتمال أن يتعامل ترامب مع تبادل المعلومات الاستخباراتية بطرق انتهازية، على سبيل المثال، باستخدامها كأداة ضغط في قضايا غير ذات صلة. بينما يخشى آخرون من تعامله المتقلب مع الاستخبارات، بالإضافة إلى تعيينه موالين عديمي الخبرة في مناصب حساسة في الاستخبارات والأمن القومي.

ولتفادي المخاطر المحتملة، قد يلجأ حلفاء واشنطن وشركاؤها إلى مزيد من الحذر في تبادل المعلومات الاستخباراتية خلال ولاية ترامب الثانية. وقد يختارون تقليص حجم المعلومات التي يمررونها إلى واشنطن، أو تنقيحها إلى حد يجعلها تفقد قيمتها بالنسبة للولايات المتحدة.

في المقابل، تحتاج إدارة ترامب إلى شراكات استخباراتية قوية لمواجهة بيئة جيوسياسية غير مستقرة، حيث تتصاعد التهديدات الإرهابية ويبرز ما يُعرف بـ«محور الاضطرابات»، الذي يضم الصين وإيران وكوريا الشمالية وروسيا، في مواجهة الولايات المتحدة وحلفائها. في هذا السياق، تميل وكالات الاستخبارات التابعة لحلفاء واشنطن إلى تعزيز التعاون مع الولايات المتحدة أكثر من أي وقت مضى، لكن ذلك يعتمد على مدى ثقتهم في نزاهة وموثوقية مجتمع الاستخبارات الأمريكي.

يشكل التعاون الاستخباراتي الخارجي بين الولايات المتحدة والدول الأخرى سلاحًا ذا حدين، فهو يوفر مزايا استراتيجية كبيرة لكنه قد يحمل مخاطر تهدد الأمن القومي الأمريكي. فمن خلال هذا التعاون، تتمكن الدول من تجميع الموارد لتحليل أهداف استخباراتية ذات أهمية، وتنسيق شبكات العملاء للحصول على معلومات بشرية تكميلية، والتحقق من صحة التقارير لتعزيز دقة التحليل. كما يتيح تبادل المعلومات مقارنة الملاحظات بصيغة غير رسمية مع شريك موثوق به، مما يعزز الثقة بين الأطراف المعنية. إلى جانب ذلك، يحمل التعاون الاستخباراتي أبعادًا اقتصاديةً، حيث يمكن للدول تقاسم التكاليف الباهظة لتطوير وصيانة الأقمار الصناعية، وكذلك توزيع عبء معالجة وترجمة كميات ضخمة من إشارات الاستخبارات. كما أن هناك مزايا جغرافية، مثل: إقامة منشآت استخباراتية أو تنفيذ عمليات جمع معلومات على أراضٍ صديقة. ونظرًا لهذه الفوائد الاستراتيجية والعملياتية، تجاوزت وكالات الاستخبارات الميل التقليدي للعمل بشكل منفرد من أجل ضمان الأمن التشغيلي، وفضلت التعاون المشترك لتحقيق تأثير أكبر.

لكن الاتصال الاستخباراتي ليس مجرد نتيجة، بل عملية مستمرة تتطلب بناء سمعة أمنية قوية وتعزيز السرية لتشجيع المزيد من تبادل المعلومات. وكما هو الحال في السياسة، فإن الثقة المتبادلة تعمّق العلاقات بين الشركاء. ومع ذلك، يبقى الاتصال الاستخباراتي أداة سياسية حذرة، حيث يستخدم كل طرف المعلومات التي يمتلكها لتحقيق مصالحه الوطنية. وفي بعض الحالات، لا يُستخدم تبادل المعلومات فقط لإبلاغ الشركاء، بل أيضًا للتأثير على مواقفهم تجاه قضايا معينة. في هذا السياق، قد تواجه الولايات المتحدة مخاطر استراتيجية إذا بدا أن أهدافها تنحرف عن أهداف حلفائها في قضايا حساسة، مثل الدفاع عن أوكرانيا ضد العدوان الروسي. فقد يؤدي أي اختلاف في الأولويات إلى إضعاف موقف واشنطن وتقليل نفوذها على طاولة المفاوضات.

تعد الثقة في مجتمع الاستخبارات الأمريكي ركيزة أساسية لاستمرار العلاقات الاستخباراتية، حتى في ظل التحولات السياسية. ويجب على ترامب أن يحافظ على السمعة التي اكتسبها هذا المجتمع بشق الأنفس ككيان غير متحيز، وذلك عبر التأكيد على أن الاحترافية والدقة التحليلية ستظل محفوظة في جميع الوكالات الثماني عشرة التي تشكّل مجتمع الاستخبارات. كما ينبغي للإدارة أن تنظر إلى هذه الوكالات، بما في ذلك مكتب التحقيقات الفيدرالي (FBI)، باعتبارها جهات تقدم رؤى ومعلومات حاسمة، وليس كأدوات يمكن تسييسها أو إخضاعها لتصفية سياسية. لكن المخاوف الاستخباراتية لدى حلفاء الولايات المتحدة اليوم تعود إلى سلسلة أحداث مثيرة للجدل وقعت خلال ولاية ترامب الأولى وبعدها. ففي مارس 2017، اتهم أحد حلفاء ترامب وكالة الاستخبارات الإشاراتية في المملكة المتحدة، مقر الاتصالات الحكومية (GCHQ)، بالتجسس على حملة ترامب الانتخابية، مما أثار حالة من الذعر في لندن ودفع أقرب شريك استخباراتي لواشنطن إلى إصدار توبيخ علني نادر. وعلى الرغم من أن البيت الأبيض سارع إلى طمأنة داونينج ستريت بأن هذه الادعاءات لن تتكرر، إلا أن الضرر كان قد وقع. ورغم أن هذه الحادثة لم تؤثر جوهريًا على تبادل المعلومات الاستخباراتية أو التعاون العملياتي، فإن الأحداث اللاحقة كانت أكثر خطورة.

في مايو 2017، ووفقًا لتقارير واشنطن بوست، شارك ترامب خلال اجتماع في المكتب البيضاوي معلومات استخباراتية بالغة الحساسية، مقدمة من إحدى الدول الحليفة، مع وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف والسفير الروسي لدى الولايات المتحدة سيرجي كيسلياك. يشكل هذا انتهاكًا خطيرًا لبروتوكول الاتصال الاستخباراتي، حيث يفترض أن تبقى المعلومات التي يقدمها شريك استخباراتي طي الكتمان التام. مثل هذه التجاوزات تقوض ثقة الحلفاء، مما قد يدفعهم إلى إعادة النظر في مستوى تعاونهم مع واشنطن مستقبلاً.

لم تزد مخاوف حلفاء الولايات المتحدة إلا بعد أن نشر ترامب في أغسطس 2019 تغريدة تضمنت صورة عالية الدقة التقطتها أقمار صناعية، تُظهر الأضرار الجسيمة التي لحقت بمركز سمنان الفضائي الإيراني نتيجة انفجار صاروخي أثناء الاستعدادات لإطلاق قمر صناعي. ورغم أن هذه الصورة لم تأتِ من حكومة أخرى، فإنها كشفت عن قدرات الاستخبارات التصويرية الأمريكية، وأثارت مجددًا المخاوف بشأن تعامل الرئيس المتهور مع المعلومات الاستخباراتية السرية.

وفي حادث منفصل بعد ثلاث سنوات، عثر مكتب التحقيقات الفيدرالي على صناديق تحتوي على وثائق شديدة السرية داخل حمام في منتجع ترامب مارالاجو. واليوم، يهدد نهج ترامب العدائي بتفاقم التحديات المتأصلة في الدبلوماسية الاستخباراتية، مما قد يؤدي إلى تداعيات خطيرة على شراكات واشنطن الاستخباراتية الخارجية.

قد يستنتج بعض الشركاء أيضًا أن الولايات المتحدة، التي تتجه نحو نهج شبه انعزالي، ستصبح أقل أهمية في النظام الدولي، مما يجعلها شريكًا دفاعيًا أو دبلوماسيًا أقل تفضيلًا. ويعني تراجع مكانة الولايات المتحدة كشريك تقليص الحاجة إلى تبادل المعلومات الاستخباراتية من الأساس، إذ لن تكون هناك سياسة خارجية مشتركة يمكن تنسيقها. وقد يرى حلفاء واشنطن أن تراجع انخراطها العالمي يقلل من حاجتها إلى المعلومات الاستخباراتية حول قضايا لا تحظى باهتمام إدارة ترامب.

في الوقت الحالي، لا يزال الشركاء الأجانب يميلون إلى مشاركة أسرارهم مع واشنطن؛ نظرًا لأن ذلك يُعد استثمارًا استراتيجيًا في أمنهم الوطني؛ فالولايات المتحدة غالبًا ما تقدم معلومات استخباراتية أكثر وأعلى جودة مما تتلقاه، ولا يرغب الشركاء في تعريض هذا التدفق للخطر. ويتجلى ذلك في المقارنة بين الهجوم الإرهابي الناجح في ديسمبر الماضي على سوق عيد الميلاد في ألمانيا، والهجوم الذي تم إحباطه على حفل تايلور سويفت في فيينا؛ إذ لعب التعاون الاستخباراتي بين الولايات المتحدة والنمسا دورًا حاسمًا في منع الأخير. بالنسبة لحلفاء واشنطن، تظل الفوائد الأمنية للتعاون الاستخباراتي كبيرة، إلا أنهم سيوازنون بين هذه الفوائد ومخاوفهم المتزايدة بشأن إدارة ترامب. ورغم التحديات الملحوظة خلال فترة ولاية ترامب الأولى، ظل التعاون الاستخباراتي قائمًا بوتيرة ثابتة، إلى حد كبير بفضل القيادة المستقرة. فقد ساهم تعيين شخصيات مهنية مرموقة تحظى بالاحترام في العواصم الأجنبية، مثل جينا هاسبل مديرة لوكالة الاستخبارات المركزية وكريستوفر راي رئيسًا لمكتب التحقيقات الفيدرالي، في تهدئة مخاوف الحلفاء بشأن تأثير ترامب على العمل الاستخباراتي اليومي.

أغلب الوكالات الثماني عشرة التي تشكل مجتمع الاستخبارات الأمريكي تتبع وزارة الدفاع، ويديرها ضباط عسكريون كبار غير حزبيين لا يدينون بمناصبهم للولاء الواضح لترامب. ورغم أن تعهده الانتخابي كان «تطهير كل الجهات الفاسدة في جهاز الأمن القومي والاستخبارات»، يبدو أن ترامب يعتقد أن «الدولة العميقة» تتربص في الغالب بمكتب التحقيقات الفيدرالي ووكالة الاستخبارات المركزية، ويبدو راضيًا بترك الوكالات الأقل ذكرًا، مثل: وكالة الاستخبارات الجغرافية الوطنية ومكتب الاستطلاع الوطني، لمواصلة شراكاتها الدولية دون تدخل سياسي مباشر.

حتى لو تم تأكيد تعيينات ترامب المثيرة للجدل في مناصب الاستخبارات، فإن ردود فعل العواصم الأجنبية ستعتمد على مدى اعتدال هذه الشخصيات بعد توليها المنصب. رغم حزبيته، أبدى جون راتكليف، المرشح لمنصب مدير وكالة المخابرات المركزية، استعدادًا للاستماع للمحترفين خلال ولايته القصيرة السابقة. وأثناء جلسات تأكيد مجلس الشيوخ، أكد التزامه بحماية الوكالة من التسييس. ومع ذلك، أثارت احتمالات تعيين شخصيات مثل: كاش باتيل أو تولسي جابارد مخاوف كبيرة بين حلفاء واشنطن.

إذا شكك شركاء الولايات المتحدة في نزاهة التعامل مع المعلومات الاستخباراتية، فقد يؤدي ذلك إلى تآكل الثقة ويضر بعلاقات الاتصال الاستخباراتي. فالمعلومات المسيسة تفقد قيمتها، كما أن الحلفاء قد يترددون في مشاركة معلوماتهم خوفًا من استغلالها لدعم سياسات إدارة ترامب بدلًا من تحليلها بموضوعية.

يعزز الاتصال الاستخباراتي قوة الولايات المتحدة وكفاءة حلفائها من خلال بناء الثقة والتعاون طويل الأمد، وهو ما لا يتناسب مع النهج المعاملاتي والسعي إلى «الصفقات الجيدة». لضمان استمرار تبادل المعلومات خلال ولاية ترامب الثانية، ينبغي لواشنطن طمأنة شركائها بشأن الحياد والاحتراف في العمل الاستخباراتي. ويتطلب ذلك تعيين خبراء ذوي كفاءة في مناصب الأمن القومي، بعيدًا عن الاختبارات الأيديولوجية، مما يبعث رسالة طمأنة للحلفاء بأن مجتمع الاستخبارات الأمريكي سيظل غير مسيّس. يجب على الكونجرس ممارسة الرقابة على إدارة ترامب لضمان استقلالية المفتشين العموميين في الإشراف على مجتمع الاستخبارات دون تدخل سياسي. كما يتعين على الإدارة إثبات التزامها بالمعايير الاستخباراتية والأمنية على المدى الطويل، مما يعزز ثقة الحلفاء في واشنطن ويضمن استمرار التعاون السري الفعّال.

ديفيد ف. جيو أستاذ مساعد، قسم التاريخ زميل تاريخ، معهد الجيش السيبراني.

نشر المقال في Foreign Affairs

أخبار ذات صلة

0 تعليق