تاريخ لا يُشترى ولا يُباع! - ستاد العرب

0 تعليق 0 ارسل طباعة تبليغ حذف

«أنا سيف.. وأنا سليمان.. وأنا زاهر».

هكذا أجبنا الدليل السياحي الذي سألَنا عن أسمائنا بعد أن أخبرَنا بأنّ اسمه محمد.

«ما شاء الله. تحملون أسماء تُشبه أسماءنا».

«وهل أنتَ مستغرب من هذا الأمر وأنتَ دليلٌ سياحي؟! ألا تعلم التأثير العُماني على كلِّ ما فـي زنجبار من بشر وحجر وشجر؟!»

حدث هذا الحوار صبيحة الأربعاء الحادي عشر من ديسمبر 2024 عندما مرّ بنا محمد فـي الفندق. بالقطع فاجأه تعليقُنا، إذ ربما لم ينتبه إلى حقيقة أننا من عُمان، بحكم أنه يؤدِّي هذا العمل يوميًّا بشكل روتيني ويصادف أناسًا من بقاع شتى من العالم.

خرجنا من الفندق وبدأنا الجولة مشيًا على الأقدام أمام ساحة فرضاني التي تُعدّ من أبرز المعالم السياحية فـي المدينة الحجرية (Stone Town)، بل تُعدّ قلب زنجبار الثقافـي والتاريخي. وقفنا أمام لوحة عليها شعار سلطنة عُمان وتشير إلى أعمال الترميم التي تُجرى لـ«بيت العجائب». عدتُ بذاكرتي أربع سنوات إلى الوراء عندما علمتُ بتساقط جزء من هذا المَعْلم التاريخي، لكنّ محمدًا أضاف إلينا تفاصيل أكثر؛ فقد حدث هذا التساقط فـي الساعة الثانية عشرة وعشر دقائق من ظهر يوم الجمعة الخامس والعشرين من ديسمبر 2020، وانهار الجزء الأمامي من «بيت العجائب»؛ وتحديدًا الواجهة المطلة على البحر وبها برج الساعة. وبرج الساعة هذا له حكاية أخرى لا تقل دهشة عن حكاية الانهيار؛ فقد بُني عوضًا عن منارة دُمِّرت خلال الاعتداء الإنجليزي على زنجبار عام 1896، والذي سأسرد حكايته بعد قليل، وأثناء إعادة الترميم عام 1897 بُني برج الساعة مكان المنارة.

كنتُ أمنّي نفسي بأن يتمكن دليلنا من إدخالنا إلى «بيت العجائب»، ولكن أعمال الترميم حالت دون ذلك، مثلما حالت دون الدخول إلى «بيت الساحل» الذي يرمم بدوره ويقع بجانب «بيت العجائب» الذي ظلّ شامخًا منذ عام 1883، عندما بناه السلطان برغش بن سعيد بن سلطان - كما ذكرنا فـي مقال سابق - واستخدمه قصرًا للاستقبالات الرسمية وقاعة للاحتفالات، وسُمِّي بهذا الاسم لأنه كان أول مبنى فـي زنجبار تصل إليه الكهرباء، وأول مبنى فـي شرق أفريقيا يحتوي على مصعد كهربائي، وأدخل القصرُ عناصر معمارية جديدة إلى شرق أفريقيا، بما فـي ذلك الأعمدة الخارجية التي كانت مصنوعة من الحديد، ممّا ساعد فـي ثبات السقوف العالية وصموده، حتى سقوط جزء منه فـي ذلك اليوم المشؤوم. ولاحظنا من خارج المبنى أنّ أعمال الترميم تجري على قدم وساق، رغم أنّ الحكومة العُمانية وقّعت على وثائق إسناد مناقصة إعادة تأهيل المبنى فـي أكتوبر 2019م، وهي فترة طويلة نسبيًّا، إذ مرّ على تاريخ التوقيع حتى هذه اللحظة خمس سنوات، علمًا بأنّ سقوط ذلك الجزء وقع - كما أشرنا - بعد توقيع مناقصة إعادة تأهيل المبنى.

أذكر أني تابعتُ سِجالًا فـي مجموعات التواصل حول الاهتمام ببيت العجائب، إذ رأى كثيرون أنّ الموضوع غير ذات قيمة الآن وأحرى بنا أن ننساه بما أنه انهار وانتهى أمره، فـيما وجّه آخرون اتهامات بالتقصير للمسؤولين عن ترميمه. ومرةً أخبرني الدكتور محسن بن حمود الكندي - المهتم بالأثر الثقافـي والمعماري العُماني فـي زنجبار، وله كتابات مبكرة فـي هذا الشأن - متأسفًا أنه خلال زيارته لـ«بيت العجائب» وجد أنّ طريقة الترميم كانت بدائية وبطيئة ولا ترقى إلى أن تُسمّى ترميمًا، رغم أنّ المبلغ المرصود له ليس بالمبلغ الضئيل. ومن الغريب بالفعل أن يكون عدد العاملين فـي الترميم وقت الانهيار أربعة عُمّال فقط!

وأنا أقف أمام «بيت العجائب» خطَر لي أنّ الانتقادات التي أثيرت حول ترميمه ليست مبررة؛ لأنّ هذه الآثار جزءٌ من التراث العُماني ولا يصح أصلًا أن نهمل هذا التراث، سواء كان فـي أفريقيا أو آسيا أو أيِّ مكان فـي العالم، بل إنّ الاهتمام بها واجب؛ لأنّ من حق الأجيال القادمة من العُمانيين أن تقرأ تاريخ أجدادها بطريقة صحيحة وعلمية وأن ترى بأعينها المعالم الحضارية والآثار التي خلّفها العُمانيون خلف البحار. ويكفـي أن أذكِّر بأنّ ما فـي جعبتنا من تاريخ وحضارة هناك من يتمنى أن يشتريه بأيّ ثمن كان، لكن التاريخ لا يمكن أن يُشترى وحتمًا لا يمكن أن يُباع.

وبما أنّ الشيء بالشيء يُذكَر فالحقيقةُ التي لمستُها بنفسي خلال هذه الرحلة أنّ لعُمان قوى ناعمة وفاعلة وإيجابية كثيرة فـي الشرق الأفريقي، إلا أننا لم نستغلها - للأسف - كما ينبغي، ربما لقصور فـي النظر وعدم إدراكنا لقيمتها العالية فـي تلك المجتمعات، باعتبارها تمثل يد عُمان الطولى والناعمة فـي الآن ذاته فـي الشرق الأفريقي كله. ولأننا لم نهتم بتلك القوى الناعمة فقد أضحت مكانة عُمان والعُمانيين تتراجع لصالح أطراف لم تكن موجودة هناك فـي الأصل، وأظن أنه آن الأوان لاستدراك هذه الثغرة بالسرعة القصوى، فإذا أهملنا اليوم تراثنا خارج عُمان - والذي لا يُقدّر بثمن - فإننا سنفرط فـيه داخلها غدًا، ومن يهمل ثقافته وتاريخه فإنه سيهمل وطنه برمته.

أحد أهم مفردات التاريخ العُماني فـي شرق أفريقيا هو «بيت الحكم» الذي كان يتوسط «بيت العجائب» و«بيت الساحل»، والذي دمره الإنجليز تدميرًا كاملًا يوم 27 أغسطس 1896، فـي اعتداء سافر سمّوه زورًا وبهتانًا «أقصر حرب فـي التاريخ». وسأسرد حكاية هذا البيت والاعتداء عليه فـي مقال الأسبوع القادم إن شاء الله.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق