كدم .. جذور تشكّل الدولة الأولى في عُمان - ستاد العرب

0 تعليق 0 ارسل طباعة تبليغ حذف

مَن يريد معرفة أمة.. فعليه أن يبحث فـي جذورها؛ ومَن أراد أن يدرس أنظمة إدارة مجتمع.. فعليه أن يقف على أصولها، وهذا منهج عام فـي الأنظمة؛ الدينية والسياسية والاجتماعية ونحوها. وممن درس أصول الأمم وأخلاقها ونشأة دولها وحضاراتها الفرنسي جوستاف لوبون (ت:1931م)، فخرج بهذه النتيجة فـي كتابه «السنن النفسية لتطور الأمم»؛ إذ يقول: (ومن ركام خفـيٍّ موروث تتكون صفات الخُلُق التي يتألف من مجموعها ما للأمة من روح قومية، ومن هذه الصفات تتركب مجموعة ثابتة من المشاعر والتقاليد والمعتقدات، مشترعة فـي غضون الأجيال، لضرورات تخضع لها حياة كل أمة)، (والصفات الخُلُقية والذهنية التي يتألف من اقترانها روح الشعب هي عنوان لخلاصة ماضيه وتراث أجداده وعوامل سيره).

وإن كان لوبون قد درس ذلك فـي الأمم؛ فإن الأمريكي فرنسيس فوكوياما يقرره فـي الدول؛ فـيرفض المقارنة بين الدول كالهند والصين بوضعها الحالي، ويرى بأنه لابد من الرجوع إلى الجذور المؤسسة لنظامها؛ فـيقول: (المشكلة فـي كثير من تلك المقارنات أنها لا تأخذ بعين الاعتبار حقيقة أن الأنظمة السياسية فـي هذه البلدان متجذرة فـي بُناها الاجتماعية، وفـي تواريخها).

وإذ تقرر بأن الدولة امتداد لنشأتها ولأخلاق مؤسسيها وأوائلها، وللبيئة المحيطة بها؛ الطبيعية كالتضاريس والمناخ، والبشرية كالعلاقات مع المجتمعات، وللصراعات التي قامت حينها، فإنه من الضروري أن نبحث فـي نشأة الدولة العمانية الأولى، حتى نقف على «الجذور النفسية» المؤسسة لكيانها السياسي والاجتماعي. لكن عُمان -كغيرها- لا تملك وثائق مدونة على نشأتها، ما يجعلنا أمام صعوبة بحثية، تلجئنا للتغلب عليها إلى الوثائق غير المدونة كعلم الآثار. ومع أن هذا العلم لا يزال حديثا، وفـي عُمان قد لا يزيد عمره عن الخمسين عاما، إلا أن المادة المتوفرة تسمح بتقديم محاولة مبتكرة لقراءة نشأة الدولة بعُمان.

بحسب الرواية الكلاسيكية.. فإن الدولة العمانية تبدأ بمالك بن فهم، بعد أن طرد الفرس من عمان، لكن هذه الرواية طمستها الأسطرة، حتى أخرجتها من منطق التاريخ إلى ضروب الوهم. والدراسات الحديثة؛ منها الآثارية، لا تعطي الهجرة اليمانية إلى عمان والوجود الفارسي بها زمنا أسبق من القرن الثالث الميلادي. والدولة -بأي شكل من أشكالها- أسبق من ذلك بكثير، حيث يورد الآثاريون دلائل على وجود مملكة فـي عمان قبل ذلك بأكثر من ألفـي عام، فقد جاء فـي «فـي ظلال الأسلاف» لسيرج كلوزيو وموريسيو توزي (ت:2017م): (وهناك تصريح متباهٍ لنارام سن الحاكم الأكادي لوادي الرافدين، والذي غزا عمان نحو القرن الثالث والعشرين قبل الميلاد، وذكر فـيه أنه هزم مانيوم «معن» ملك مجان)، ويرى المؤلفان أن ملك عمان حينها كان قويا (فإن ملكا قويا مثل نارام سن يمكنه فقط هزيمة الملوك الأقوياء الآخرين)، ويفترضان أن (مانيوم كان القائد المؤقت لتحالف قبلي، عُيّن بوصفه كفأ وسط أكفاء لتجميع القوى ضد الغزاة). والشواهد على أن الدولة فـي عمان قائمة منذ الألفـية الثالثة قبل الميلاد.

فرانسيس فوكوياما.. فـي «أصول النظام السياسي»؛ درس نظريات تشكّل الدولة، وذكر عدة أصول لها. والمقال.. يحاول تحليل نشأة الدولة العمانية الأولى على ضوء مقترحات فوكوياما، وهو تحليل ليس نهائيا؛ فمن المتوقع أن تقوم دراسات تعالج الموضوع بطريقة أفضل، فأرجو أن يكون المقال مهادا لها، قد تنفـي ما جاء به أو تثبته أو تعدله، فـيكفـيه أنه فتح الباب لقراءة تأريخنا القديم.

من بعد تتبع مديد للعديد من مواقع الآثار فـي عمان، والمقارنة بين مكوناتها، وجدت كدم بقلب عمان أفضل موقع لاستقراء آثارها. فهي حوزة مسوّرة ترجع إلى الألفـية الثالثة قبل الميلاد، فـي الحقبة التي ظهرت فـيها المدن المسوّرة، مُشكِّلة نظاما سياسيا عُرف بـ«مدينة الدولة»، وسلطة الملك فـيها لا تمتد خارج أسوار مملكته، وإنْ امتدت فليست بعيدا عنها. وبحسب الدلائل.. ربما أن الإقليم العماني الكبير وجد فـيه حينذاك حوالي 30 مملكة، قد تكون متنافسة فـيما بينها إلا أنها تتعاون فـي الدفاع عنه من الغزاة وطردهم.

إن سبب اختيار كدم موضوعا للدراسة هو كونها حوزة ضخمة بحسب تلك الحقبة الغابرة، ولا زالت تحتفظ بكثير من معالمها التي أنشئت عليها، فهي يحيط بها سور نقدره بـ25كم، لا تزال أساساته الحجرية باقية. ويوجد بها معابد، يحتفظ أحدها بمواضع النُصُب والنُسك والقِبلة، ووجود صور كبيرة لرجال؛ نحسبهم من ملوك وسادة تلك المملكة، مع وجود آثار لسدود وبدايات نظام توزيع المياه، بالإضافة إلى الرسمات الكثيرة التي تنبئ عن جوانب من أحداث ذلك الزمان.

«الدولة كمشروع هيدروليكي».. كدم يوجد بها نظام مائي قديم، ابتدأ بصورة بسيطة، حيث عاش الناس على مجاري الأودية وشعاب الجبال، ثم تطور ببناء السدود، وربما يكون ذلك فـي الألفـية الثالثة قبل الميلاد، ثم تواصل لتتحول إلى أفلاج، وحوزة كدم تشتمل على واحات خضراء، تعتمد على مصادر المياه المعروفة فـي عمان كالأودية والأفلاج والآبار، وبذلك نشطت الزراعة فـيها، ولا تزال محافظة على طبيعتها الزراعية ونظام ريها حتى الآن.

«العوامل الجغرافـية والبيئية».. كدم ابنة الجغرافـيا، حيث تقع فـي عمق عمان، ويصعب الوصول إليها ومهاجمتها، فالجبال.. تضمن لها حماية منيعة، وهي بمثابة أسوار طبيعية عتيدة. هذه الجغرافـيا جعلت العمانيين فـي الزمن الإسلامي يتخذون عواصمهم فـي هذه المنطقة كنزوى والرستاق وبَهلا. ولذلك لم تشهد المنطقة استعمارا أجنبيا، والحملات العسكرية التي تصلها من الجزيرة العربية تتكبد خسائر، ثم لا تلبث أن يذوب أفرادها فـي المجتمع العماني.

«الكثافة السكانية».. لا يمكن تقدير عدد سكان المنطقة فـي تلك العصور المنقرضة، إلا أن البواقي منها تشي بوجود سكان كافـين لأن يقيموا مملكتهم المستقلة، منها وجود المستوطنات المنتشرة على الجبال، وفـي السهول، وعند ضفاف الأودية. وما بقي من القبور البرجية يمكن الاستئناس به فـي تقرير الكثافة السكانية بكدم.

«الدولة نتاج العنف».. سواء أكان صراعا أهليا بين سكان المنطقة، أم اعتداءات خارجية. ومن الطبيعي.. ليواجه سكان كدم صراعاتهم الداخلية والتدخلات الخارجية على بلادهم؛ أن يجمعوا شكيمتهم وعصائبهم لإقرار الأمن بينهم وللدفاع عن حوزتهم، كما يدفع بهم ذلك إلى حياطة حوزتهم بسور، وأن يسوّدوا عليهم ذوي العصبة لقيادتهم، وهذا ما تحتاج له الممالك فـي ذلك الزمن. ويوجد كثير من الرسمات الصخرية التي توثق فـيما يبدو أنه عنف وحروب مرت بها كدم.

«الدولة عقد اجتماعي».. العقد الاجتماعي سابق على الدولة، والدولة ثمرة له، فعندما تحيط بسكان المنطقة الخطوب تدفع بهم تلقائيا إلى «التعاقد» فـيما بينهم لتنظيم أنفسهم وإقامة نظام سياسي لهم، وإذا ركنا إلى تفسير لوبون بأن «أخلاق الأمم» تمتد أمدا طويلا؛ فإننا نجد «التسالم» بكونه نوعا من التعاقد بين الناس للحفاظ على وجودهم ظاهر يصبغ المنطقة، وخصوصا كدم، حتى الآن.

«الدولة نتاج السلطة الكارزمية».. من يطلع على الصور البشرية الكبيرة المرسومة فـي كدم، والتي تبلغ حوالي عشر شخصيات، بالإضافة إلى الشخصيات السبع المنحوتة فـي صخرة التعبد بـ«معبد ني صلت»، يرتسم فـي ذهنه وجود قيادات كارزمية مؤثرة؛ سياسية ودينية، تنساق الناس لطاعتها والعمل بتوجهاتها خلال نشأة هذه المملكة وازدهارها.

هذه المؤشرات التي استظهرتها من آثار كدم؛ توقفنا على جذور نشأة الدولة العمانية، وهي لا تقتصر على كدم، فالعديد من البلدان العتيقة بعمان يمكن أن تؤكد هذه المؤشرات، وقد تضيف إليها، وبلادنا مناسبة لدراسة الأصول الأولى للأنظمة القديمة، والتي علينا أن نعجِّل بتوثيقها وتحليليها والاستنتاج منها، قبل أن يطويها الزمن برياح التغيير إلى غير رجعة.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق