الشعر والرواية .. التلاقي والتباعد - ستاد العرب

0 تعليق 0 ارسل طباعة تبليغ حذف

الشعر والرواية عالمان لهما منبت واحد، فهما من الأدب، وأداتهما اللّغة، ولهما فروع متباينة قد تلتقي وقد تتفارق، فالشّعر كلام مغنّى مخيّل، أو هو كلام حامل لإيقاع به يختصّ، وداخل فـي التخييل، ينفر المباشرة، ويجفو تقصّي الحوادث ويتوجّه إلى الحال، فهو قول ينحو إلى التكثيف والتراكب الدّلالي، يعمل فـيه الشاعر على معنى المعنى، لا على المعنى، ولذلك، فإنّه قول يميل إلى إجراء الصور الشعريّة التي تحقّق هذا التكثيف، وتؤثّر فـي المتلقّي عبر مستويات، أمّا الرواية فأحداث تتابع وتتداخل، وشخصيّات تؤدّي هذه الأحداث، ووقائع يضطلع راو بروايتها بأساليب متعدّدة، هي عوالم محكيّة، فـيها تمثّل وتمثيل، وإعادة إنتاج لواقع حالّ ذهنا أو معاينة.

فهل تلتقي الرواية مع الشعر؟ لا يمكن أن نتحدّث عن مقارنة بين الشّعر والرّواية، ولكن حسبنا أن نرسم حدودا لكلّ جهة من الجهتين، هنالك فارق عميق بين التعبير عن الوجود شعرا فـي عبارة مكثّفة تترك للقارئ مجالا وسيعا لبناء المعنى، وبين الحكاية مساحة وسيعة للتّفصيل. جوهر الرّواية حكاية تروى وقصّة تقصّ وأحداث يتكفّل سارد بروايتها، الشّعر مجاله الحيويّ الحييّ مختلف عن مجال الحكاية، هو لا يحكي قصّة وإنّما يهزّ أثرا ويثير شعورا، الشاعر لا يقصّ وإن احتوى الشعر قصصا، الشعر لمح وإشارة والرّواية تفصيل وبناء لشخصيّات، وإقامة لعوالم ممكنة، ومحاكاة للكون من جهة وبناء لكون جديد من جهة أخرى، ولذلك، فلا لقاء -على مستوى التعبير- بين الشّعر والرّواية، وإنّما اللّقيا بينهما هي تفاعل المتكافئين المختلفـين، فقد يتشعّر القصص أو يتسرّد الشّعر، ولكن يبقى لكلّ منهما روحه وجوهره.

لقد التقى القصص مع الشعر فـي وحدة مميّزة فـي قديم الأدب، فتشكّل أثر مميّز فـي تراث الإنسانيّة، هو الملحمة. الملحمة هي مجال اللّقيا بين الشّعر والسّرد، حيث رواية أحداث البطولات شعرا فـي إلياذة هوميروس التي تروي قصّة حرب طروادة وصراع الطرواديين والإغريق، هذا اللّقاء له ما يشبهه بشكل بسيط فـي الشّعر العربيّ القديم، وله أيضا فـي نثر العرب استعمال للشّعر وإجراء له. غير أنّ الفاصل بين الشّعر والرّواية ليس هو ذاته -كما ذهب إلى ذلك شقّ من النقد العربيّ- الفارق بين الشّعر والرّواية. الشّعر تخييل والرّواية تخييل، والتخييل الشّعري قائم على صنوف المجاز والإيحاء بالمعنى، فـي حين أنّ التخييل الروائيّ قوامه صياغة عوالم ممكنة، عوالم تشبه الواقع وليست الواقع مادّة وتكوينا وعنْصرا ومزاجا. إشكال الصّلة بين الرّواية والشّعر هو إشكال متأتّ من عاملين متّصلين رئيسين: منزلة الرّواية التي تصدّرت المشهد الأدبيّ وسادت انتشارا قرائيّا، مقابل انحسار قراءة الشعر، وتراجع منزلته.

وانصراف عدد من الشّعراء إلى كتابة الرّواية، وكأنّ فـي ذلك اعترافا ضمنيّا أو صريحا بقدرة الرّواية على التّعبير أكثر من الشّعر، أو مسايرة لوفْرة مقروئيّة الرّواية. ولذلك، فقد أشاد عدد كبير من الكتّاب بقدرة الرّواية على تمثّل قضايا العصر، وسعة أفقها، والحقّ أنّ مقبوليّة الرّواية ماثلة فـي قدرتها على تمثيل الواقع، على حكاية تفاصيل الحياة، على تمثيل أحداث وشخصيّات وأمكنة وأزمنة، ويمكن أن نعرض بعضا من الأمثلة الدالّة على ميل هوى الكتّاب إلى شكل الرّواية أداة ناجعة للتعبير، دون تمايز بالضرورة أو تمييز، فالرّواية لها القدرة على شدّ القارئ إلى الأرض، إلى الواقع، إلى قضايا الحياة مهما ضربت فـي التخييل وهوّمت فـي المطلق، يقول نجيب محفوظ فـي ذلك، راسما الحدود الممايزة بين هذين الشكلين التعبيريين، وهو نصير الرّواية ورأسها: «الشّعر هو الوجود، والرّواية هي الحياة. الشّعر يأخذك إلى السّماء، بينما الرّواية تمكّنك من العيش على الأرض».

فـي وجه آخر من بيان هذا التمايز يذهب طه حسين إلى أنّ الرّواية، فـي منظوره، بما تحمله من أحداث وشخصيات وحوار، قادرة على تقديم صورة كاملة للإنسان فـي جميع جوانب حياته، فـي حين أنّ الشعر غالبا ما يكون مختصرا ويعتمد على الرّمزية والتكثيف، يقول: «الرّواية هي الأدب الذي يتناسب مع العصر، ويستطيع أن يعكس الواقع بكلّ تعقيداته. الرّواية تمتلك القدرة على تناول الأبعاد النّفسية والاجتماعية بشكل واسع لا يستطيع الشّعر أن يعبّر عنه.

الشّعر ذو طابع عاطفـيّ سريع، بينما الرّواية تقدّم لنا صورة أكثر شمولا ودقّة». فرجينيا وولف، الكاتبة البريطانية، ترى أنّ للرّواية القدرة على التعبير عن عمق الإنسان، هي فضاء مريح لانكشاف الإنسان، للتعبير عمّا يعتمل داخله من صراع فـي فسحة من الزّمن وفـي وسيع من المكان، وفـي طلاقة من الأحداث، وفـي حريّة فـي صياغة الشخصيّات، تقول: «الرّواية هي التي تقدّم للإنسان المكان الكافـي للتعبير عن أفكاره الدّاخلية، وشعوره المعقّد.

فـي الرّواية، يمكن للمرء أن يطوف فـي الزّمان والمكان، فـي حين أنّ الشّعر يتعامل مع اللّحظات المكثّفة والمحدودة». هنالك إجماع فـي هذه الآراء، وفـي غيرها من وفـير المقارنات التي مايزت بين الرّواية والشّعر على أمرين، هما، أوّلا قدرة الرّواية على تمثّل الواقع وصياغة عوالم ممكنة يقدر القارئ على تفكيكها وإدراك أبعادها والإحساس بعالم قريب منه، حتّى وإن كان ضاربا فـي التخييل، فـيه تتحرّك الشخصيّات وتتلوّن الأحداث. وثانيا انحصار الشّعر فـي التكثيف والإغراق فـي الرمزيّة والتعبير عن الأحوال لا الأحداث. فما يقوله الشّعر موجزا، إشارة، تقوله الرّواية مفصّلا عبارة، فالرّواية هي أمّ التفاصيل، والشّعر هو رأس الاختصار.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق