يعرف الإنسان على أنه فاسد فـي ذاته، إن لم يُحَطْ بهذه الذات بالكثير من القيم الحاكمة، والمنظمة لسلوكه، وذلك لأن الإنسان واقع تحت استحواذ النفس الأمارة بالسوء؛ إلا الاستثناء الذي أشار إليه نص القرآن الكريم: (... إلا من رحم ربي ...) وهذه الرحمة تحتاج إلى كثير من جهد الإنسان نفسه، قبل أن تصله هذه الرحمة؛ وهي التوبة والانكسار من أثر الذنب، وهذا كله ناتج عن الضعف الذي تعانيه النفس الإنسانية، وعدم قدرة الإنسان على التحكم بأهوائه وغرائزه بالصورة المطلقة التي تعفـيه عن الوقوع فـي المعصية، أي كان نوع، وحجم هذه المعصية، فالنفس لحالها لن تعانق الاستقامة فـي ظل وجود مجموعة من المشاعر والأهواء التي تتجاذبه، والتي؛ وفق تقديراته الخاصة أنها تحقق له شيئا ما يفتقده أو عجز عن الوصول إليه بالطرق الصحيحة، وغير المنكورة عليه فعلها.
ويأتي اقتراف المعصية فـي عموميتها؛ عندما يخرج الإنسان عن طبيعته البشرية التي لا يكون لها مطالب عالية السقف، إلا لحاجاتها الطبيعية التي لا تزيد عما يتوفر لها بالفعل - كما يقول روسو - أو التوقف عند حالة الاكتفاء وليس الرغبة التي تولد الشراهة - كما يقول غاندي - وبالتالي فمن يخرج عن الطبيعة البشرية؛ عندها يرتدي ثوب الشيطنة؛ وهو ثوب لا يرتديه الإنسان فـي ظروفه اليومية العادية التي يمر بها وهو فـي حالة الاسترخاء، إذ لا بد أن تهجم عليه الأفكار السوداء، فـيقحم نفسه فـي قضايا هو فـي غنى عنها. وليس الأمر مقتصرا على حالات الظروف القاسية التي يحاول من خلالها الإنسان أن يجد لنفسه مبررات فعل المعصية «الفساد» كالسرقة فـي حالة الفقر، والزنا فـي حالة عدم القدرة على الزواج، وشرب الخمر فـي حالة تدافع الظروف القاسية عليه؛ كما يعتقد؛ وترهل أداء الواجب، وعدم تطبيق العدالة فـي حالة الانغماس فـي الفساد الإداري، وغيرها من قائمة الفساد، التي لا أول لها ولا آخر، وهذه كلها تعكس؛ ليس فقط امتحانا للإرادة، وإنما تذهب كثيرا إلى الاستعداد الفطري عند هذا الإنسان لأن يرتكب معصية ما، ولو كانت صغيرة فـي التقييم، وأقربها معصية الكذب، وما أكثرها فـي كل صغيرة وكبيرة فـي السلوكيات اليومية.
يتم الحديث دائما عن النزاهة والفساد فـي آن واحد، وذلك لارتباطهما الموضوعي، وبالتالي عندما يتم الحديث عن مؤشرات الفساد، يتم الحديث عن مؤشرات النزاهة، مع أن النزاهة؛ يفترض؛ أن تكون مقدمة فـي الأهمية على الفساد، كمطلب أساسي لسير الحياة الآمنة المطمئنة من لمم الشر المتناثرة، وذكر الفساد فـي حد ذاته يربك الساكن، ويطرح الأسئلة، ويلفت الانتباه هنا وهناك، هل لأن استفحال الفساد سببه عدم استحواذ النزاهة على سلوكيات البشر، وبالتالي فهو الطاغي أكثر من النزاهة؟ أم أن النزاهة ممتحنة بصورة مستمرة؛ لأنها ليس فقط واقعة تحت براثن الفساد، ولكنها تحتاج إلى كثير من تطبيقات القيم الحاكمة والأنظمة القوانين، بما فـي ذلك القيم الذاتية عند كل فرد، ومدى إيمانه بأهميتها؟ والذي يمكن الجزم به؛ من أن تسيد الفساد فـي اهتمام الناس بالحديث عنه؛ حاصل عن قسوة النتائج المترتبة من أثره، فهي ثقيلة، ومتعبة، ومحرجة، ولا يتحملها حتى أولئك الذين يأتون به فـي لحظات ضعفهم، بعكس النزاهة؛ حيث الطمأنينة النفسية، صحيح أن التركيبة الفسيولوجية للبشر قائمة على النقيضين، ولا يمكن إخلاء أحد طرفـيها لصالح الآخر، ولذلك ستبقى المعركة قائمة بين الطرفـين، وقد يحدث أن يتدخل القانون لصالح النزاهة، ولكن؛ لأن القانون مشوه بكثير من الثغرات، فإنه وإن احتمى فـي ظرف زمن ما لصالح النزاهة، فإنه لا يمكث طويلا حتى يتجابه من جديد مع الفساد، فالفساد تتطور أدواته ووسائله، لأن النفس البشرية تجد فـي الفساد شيئا من اللذة والمتعة، وتجد فـي النزاهة الكثير من تجفـيف منابع هذه اللذة و المتعة؛ فقد تجرد النفس من بعض من متع الحياة التي لا تأتي بطريقة سوية، وبالتالي تستصعبها النفوس، وتراها عقبة كأداء لتحقيق المآرب التي يسيل لها اللعاب، ويقينا؛ من ينتصر للنزاهة ينتصر للعدالة والأمانة، والأنفس السوية، هي إذن مناورة بين طرفـي المعادلة، وتظل نصوص القانون تتراقص بينهما، دون تحقيق نصر مطلق لأحد الطرفـين، وهذه فـي حد ذاتها مشكلة موضوعية فـي العلاقة القائمة بين الفساد والنزاهة.
تميل بعض الأنظمة السياسية إلى تقسيم مؤسسات النظام إلى فئات؛ وفق تصنيفات إدارية وفنية؛ فتخضع بعضها إلى المحاسبة والتدقيق، وبعضها الآخر فـيما يطلق عليها المؤسسات السيادية فـي الدولة لا تخضع إلى أجهزة الرقابة العامة مثلها مثل بقية المؤسسات، ويكون البديل إدارات التدقيق الداخلي فـيها فقط، ويظل الجمهور العام على جهل تام بما يدور داخل هذه المؤسسات، فـيحسبها نزيهة على طول أفق أعمالها وأنشطتها، وبالتالي فهناك تصور ما، يرى أن هذا التقسيم يعمق مسألة انتشار الفساد، أو على الأقل لا يخفف من توغله بين مفاصل مؤسسات الدولة، ويغرق مثل هذه المؤسسات، التي لا تخضع للتدقيق العام فـي متون الفساد، وأن التدقيق الداخلي المعتمد لن يكون نزيها بما فـيه الكفاية، وفـي ذلك طعن مباشر للنزاهة المصونة بالقيم الوظيفـية والأنظمة والقوانين المساندة التي يضعها النظام السياسي نفسه لتعظيم عائد النزاهة فـي مختلف مؤسسات الدولة، ولذلك نسمع بين فترة وأخرى عن قضايا فساد مختلفة؛ يتجاوز مسؤولو هذه المؤسسات مستويات الصلاحيات الممنوحة لهم، والخروج عن الأنظمة والقوانين، وبالتالي تكون مرشحة للوقوع فـي الفساد، حالها كحال المؤسسات العامة الأخرى التي تخضع بصورة مباشرة للأجهزة المعنية بالتدقيق، فالإنسان الذي يعمل فـي المؤسسات العامة؛ هو نفسه الذي يعمل فـي المؤسسات السيادية، لا فرق بينهما سوى المسمى الوظيفـي، ومن فرط الثقة الممنوحة للمؤسسات السيادية، أنها لا تخضع لمساءلة المؤسسة التشريعية، وهي المؤسسة التي تمثل السلطة الثانية فـي تسلسل السلطات التي يعتمد عليها النظام السياسي فـي تنفـيذ برامجه وخططه الإنمائية على مستوى الدولة، وخاصة وأنها هذه السلطة مخولة من الشعب، لكونها جاءت عبر صناديق الاقتراع الحر.
يعول كثيرا على نزاهة الضمائر الإنسانية، وعلى القيم الحاكمة والضابطة لسلوكيات الأفراد، ولكن؛ وحسب التجربة الإنسانية الطويلة؛ أن هذا النوع من الاعتماد على النزاهة غير فاعل بنسبة كبيرة، ويعاني من انكسارات؛ أغلبها؛ ذاتية، حيث تبقى هذا المسألة مرتبطة بالفرد ذاته، وفـي مثل هذه الحالات لا يمكن تعميمها على المجتمع ككل، فالمجتمع بحمولته الجماعية لا يمكن أن يجمع على قيمة معينة، وإن تقارب فـي بعض المواقف، كـ «النزاهة» أو الصدق، أو الأمانة، أو الوفاء، أو الكرم، أو الحياد، حيث تبقى كل هذه القيم خاصة جدا ومنتمية إلى فرديتها المطلقة وسط المجتمع الكبير، ولا يمكن تعميمها مهما بلغ المجتمع من الرقي الإنساني، والسمو الخلقي، فكل فرد فـيه يظل محكوما بنزعات مختلفة منبعها البيئة الأسرية، والبيئة المجتمعية، والمعززات الذاتية، ومكتسبات الخبرة الحياتية، ومستويات العمر المنجز، بالإضافة إلى خصوصيات التركيبة البنائية «الجينات» ولذلك ترى أنه حتى على مستوى الأسرة الواحدة الذين ينحدر أفرادها من أب واحد، وأم واحدة مختلفـين فـي صفات كثيرة، ومتباينين فـي سلوكياتهم المختلفة، وذلك بسبب توزع الصفات الجينية المتواردة من أسرة الطرفـين (الأب/ الأم) ومعنى هذا أن الاحتكام على المسألة الإنسانية فقط فـي تحقق النزاهة يظل أمرا خاطئا، وغير موفق على الإطلاق، ومن هنا تأتي مجموعة النظم والقوانين التي تعمل كآلة فرز دقيقة؛ إلى حد ما، فتجلي الصواب من الخطأ، وتعيد مختلف الممارسات التي يقوم بها الأفراد؛ إلى مساراتها الصحيحة، وهي؛ غالبا؛ المتوافقة مع الأنظمة والقوانين، والقيم الإنسانية الأخرى، مع ما يعتري هذه القوانين والنظم إلى بعض الإخفاقات فـي مواقف مختلفة، بما يسمى بـ «ثغرات القوانين» ولكنها تحقق الحد المعقول من النزاهة فـي حالة تطبيقها، مع ضرورة أن تتحقق القناعة لدى الفرد نفسه بأهميتها، ونجاعتها فـي تقليل نوافذ الفساد، وفـي تعظيم عائد النزاهة.
أحمد بن سالم الفلاحي كاتب وصحفـي عماني
0 تعليق