لم يتوقف الجدل فـي العالم أجمع عبر العقود الطويلة حول الإعلام وأهميته ودوره فـي بناء الوعي المجتمعي، وأيضا، حول تنظيمه وتقنينه مع ظهور شكل جديد من أشكال وسائل الإعلام، وحول دلالة «حرية الرأي» و«حرية التعبير» وحدودهما وتأثيراتهما السياسية والاجتماعية ليس فقط على استقرار المجتمعات والدول ولكن حتى على الاستقرار النفسي والعاطفـي للفرد نفسه. ورغم ذلك الجدل الذي لم يتوقف عبر التاريخ إلا أنه يبدو بسيطا أمام الجدل الذي صاحب الثورة التقنية والتكنولوجية التي نعيشها منذ عقدين من الزمن، ومعها أعيد صياغة بيئة الإعلام وتقنيات الاتصال وكثر الحديث عن دلالة وحدود مصطلح «حرية الرأي والتعبير» فـي لحظة أصبح فـيها الجميع معنيا بوسائل الإعلام سواء فـي شكلها «التقليدي» المستمر أو فـي الشكل الجديد الذي يعرف بوسائل التواصل الاجتماعي أو الشكل الأحدث الذي ما زالت أغصانه تتفرع بشكل سريع عن «الذكاء الاصطناعي» فـيما يمكن أن يعتبر الثورة التكنولوجية الأكبر فـي تاريخ البشرية.
ولم يخلُ مجتمع من المجتمعات البشرية من هذا الجدل الذي بدا صحيا ومهما ومبدئيا.. ورغم كثرة الأطروحات التي كانت نتاجا معرفـيا لهذا الجدل فـي سياقه الجديد أو التاريخي إلا أنه فـي المجمل كان يتفق على أهمية تنظيم وسائل الإعلام بما يضمن حفظ الحقوق: حقوق الأفراد والمجتمعات عبر بناء حدود مهنية وأخلاقية.
وهذا الجدل كان يدور فـي سلطنة عمان أيضا، بنفس الأطروحات والتوجهات وكان الجميع ينادي بأهمية تحديث قانون المطبوعات والنشر والقوانين الأخرى المنظمة للعمل الإعلامي.
وقد تفضل وأصدر حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم- حفظه الله ورعاه- مرسوما سلطانيا صدر بموجبه قانون الإعلام الجديد الذي يمكن أن نقرأه فـي إطار ذلك الجدل المعرفـي والسياسي والاجتماعي وباعتباره تطورا طبيعيا للقوانين السابقة؛ حيث حلّ القانون الجديد محل ثلاثة قوانين: هي قانون المطبوعات والنشر وقانون الرقابة على المصنفات الفنية وقانون المنشآت الخاصة للإذاعة والتلفزيون لتحقيق الهدف الذي كان يحرك جل الجدل التاريخي حول وسائل الإعلام وقوانينها وهو تحديث الإطار التنظيمي للقطاع الإعلامي، فـي سلطنة عمان هنا، فـي ظل التطورات التي يشهدها قطاع الإعلام وثورة الإعلام والتكنولوجيا فـي العالم من أجل أن يضمن حماية حقوق الأفراد والمجتمعات، وتعزيز الشفافـية والمساءلة داخل المؤسسات الإعلامية وليواكب المتغيرات التكنولوجية فـي مجال الإعلام التي أحدثها الذكاء الاصطناعي والتي ستعيد تعريف شكل ودلالات «وسائل الإعلام» خلال فترة زمنية وجيزة جدا.
ورغم أهمية الجدل الذي تحدثنا عنه فـي سياقه العالمي أو فـي سياقه المحلي، قديما وحديثا، لا بدّ من التأكيد أن قانون الإعلام الجديد فـي سلطنة عُمان بُني على ركائز أساسية منها النظام الأساسي للدولة الذي يضمن حرية التعبير، وعلى رؤية عمان 2040 التي تسعى إلى تحقيق تنمية اقتصادية واجتماعية متوازنة.. كما بني القانون، وهذا مهم جدا، على تقييم موضوعي للتشريعات السابقة المنظمة للأنشطة الإعلامية، وبما يتيح المرونة للقانون الجديد فـي تنظيم الأنشطة الإعلامية الحالية والمستقبلية بكفاءة وفعالية.
يحدد القانون الجديد الحقوق والحريات المستمدة فـي المقام الأول من النظام الأساسي للدولة، ويحدد المحظورات والضوابط بوضوح تام، ما يضمن ممارسة الإعلام بطريقة مسؤولة وأخلاقية من شأنها أن تحد من استخدام وسائل الإعلام بشكل يضلل الأفراد والمجتمعات وينشر خطابات الكراهية ويساهم فـي تفكيك المجتمعات وإضعافها.
وإذا كانت الأوقات السابقة فـي حاجة ماسة لوجود قانون إعلامي جديد قادر على مواكبة التطورات الإعلامي فإن هذه اللحظة التي نعيشها هي أهم لحظة لصدور قانون الإعلام الجديد لمواجهة تحديات العصر الرقمي والذكاء الاصطناعي وضمان استدامة الإعلام بوصفه أداة لبناء المجتمعات وتعزيز الحريات.
وهذه المناسبة فـي غاية الأهمية للإعلاميين تستحق منهم الاحتفاء بالقانون وبما يحققه من مرونة لممارسة الأنشطة الإعلامية وبما يحفظه من حقوق للصحفـيين وحماية المجتمع.
أما الجدل المهني والمعرفـي فلن يتوقف، وليس مطلوبا أن يتوقف أبدا، بسبب طبيعة الناس وارتباط الإعلام بحياتهم بشكل مباشر وهو مؤثر فـي بناء وعيهم المعرفـي والنفسي وتشكيل مسارات مستقبلهم على كل المستويات.
0 تعليق