حياة الإنسان وقراراته في هذه الحياة ناجمة عن قناعات ذهنية، على إثرها يكون منظور الإنسان تجاه الحياة وأحداثها، فلو اتسمت قناعاته بروح التفاؤل والأمل، انعكس ذلك على رؤيته للأحداث والوقائع في حياته بشكل إيجابي، بينما إذا كانت قناعاته ناجمة عن إحباطات في الحياة ورؤية سوداوية فينعكس ذلك بشكل سلبي في رؤيته للأمور، ومن هنا تبرز ضرورة إحياء وإنعاش القيم الذاتية المتعلقة بالتفاؤل والأمل وعدم اليأس والقنوط، وهي رؤية إسلامية تتمثل في آيات الذكر الحكيم وفي أحوال الأنبياء وأخبارهم، وفي الأحاديث النبوية المشرفة.
فلو رجعنا إلى قصص الأنبياء في القرآن الكريم لوجدناها مليئة بروح التفاؤل وعدم اليأس، حتى في أصعب اللحظات وأحلك الظروف، فهذا النبي يعقوب عليه السلام على الرغم من حزنه الشديد على فقدانه يوسف عليه السلام منذ أن كان طفلا، وفقدانه ابنه الشقيق ليوسف عليه السلام حتى أن بكاءه وحزنه جعله كفيف البصر، إلا أنه لم يستسلم لهذا الحزن ولم ينقطع أمله بالله عز وجل وهو القادر على أن يأتي بهم جميعا، فقال لبنيه: "يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ ۖ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ" فرغم تقادم زمان غياب يوسف، إلا أن أباهم نصحهم ألا ييأسوا وأن يبقى أملهم معقود بالله في أن يجدوا أخويهم.
فعلى المسلم أن يشعل جذوة اليقين في قلبه ويعلم علما لا شك فيه أن مقاليد الأمور بيد الله، فليوكل إليه أعماله، وينظر لعواقب الأمور، فالله بيده كل شيء، والأنبياء والرسل هم قدوة لأتباعهم، ففاز أولو العزم من الرسل، وذلك لصبرهم وعدم يأسهم، فنجد نوح عليه السلام استمرت دعوته لقومه ألف سنة إلا خمسين عاما، وهذا زمن طويل استفرغ فيه وسعه، وبذل جهده، وجرب كل الوسائل والطرق التي تحصل بها أبواب الهداية إلا أنه لم يؤمن معه إلا القليل.
في حين أن يونس عليه السلام آيس من قومه وخرج من عندهم قبل أن يأذن الله له في ذلك، فأراد الله أن يبين له خطأه في استعجاله على قومه، وخروجه قبل أن يأذن الله له، فخرج إلى البحر وهاجت السفينة ووقعت عليه القرعة والتقمه الحوت، فلم ييأس من النجاة حتى وهو في ظلمات ثلاث، ظلمة بطن الحوت وظلمة البحر، وظلمة الليل، فقال تعالى في أمره: "وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَىٰ فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَٰهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ" فلك أن تتخيل وضع يونس عليه السلام وكربه وهمه وغمه وهو في بطن الحوت، ولكن دعوته وحبل النجاة الوحيد الذي تمسك به وهو دعاء الله وتسليم الأمور له والاعتراف بالذنب جعل الله يستنقذه من هذا البلاء العظيم.
فالتفاؤل وعدم اليأس رغم الظروف الصعبة والقاهرة يجعل الإنسان يخرج من حوله وقوته، إلى حول الله وقوته، فهو مسبب الأسباب، ومتصرف في ملكه، وأقداره نافذة في عباده فمن رضي فله الرضا ومن سخط فله السخط، وعند الالتجاء إلى الله، والتسليم للأقدار والتعلق بالله تبرز كرامات الصبر التي تخرج عن نطاق المألوف، وتكون الأعمال والتصرفات في هذه المواقف تتسم بطابع الهدوء والسكينة والتعقل، فلذلك تكون مدهشة أمام الجميع، خاصة عند غير المسلمين ممن لم يطلعوا على هذه المعاني الإسلامية، أو حتى لم يقرأوا عنها، وهذا ما كان جليا وواضحا في شعب فلسطين العظماء، وخاصة من أهل غزة الذين لا يزال العدو الصهيوني، يقصف المخيمات والمدارس والمساجد والمنازل، وهم في صبر وتسليم لله تبارك وتعالى في أقداره.
ومن الأعمال المعينة في التغلب على اليأس والإحباط كثرة ذكر الله والدعاء، فإنها تحيي القلوب وتربط الجأش، وتريح النفس، وتجعلها متعلقة بالله طالبة ما عنده مستمطرة رحماته وفيوض عطاياه، فهو مالك الملك، وهو الذي وعد باليسر بعد العسر وذلك في سورة الطلاق في قوله تعالى: "سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا" وكم رأينا وسمعنا وقرأنا عن أناس وصل بهم الشدة والحال، فأتاهم فرج الله من حيث لم يكونوا يحتسبون، فانقلب حالهم إلى يسر بعد عسر وسعادة بعد شقاء، وراحة بعد عناء، وأصبحت لحظات الشدة التي مرت بهم هي مجرد ذكريات يستأنس بذكرها ويتخذ من أسبابها وأحوالها قصص وعبر ذاتية، كمحطة من محطات هذه الحياة الدنيا.
فلزوم ذكر الله وإشغال النفس بالاستغفار والذكر يفتح أبواب السماء وهو مفتاح من مفاتيح الرزق، وهو العون وقت الشدة، فالله تعالى يقول في الحديث القدسي: "من شغله القرآن وذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين" فالله عالم بما يصلح للأنفس، وهو أعلم بالخير الكامن في بطن الشر، وبالفائدة المتحصلة من لحظات الصعوبة والعسر، وكيف أن هذه المصاعب تغفر الذنوب إذا أحسن الإنسان التصرف فيها، وأدارها بما يرضي الله عز وجل وبما أرشدت إليه السنة النبوية، ولم يتصرف فيها وفق هواه، أو وفق ردات أفعال تبتعد عن التعقل.
ثم إن الإنسان ميزه الله بالعقل عن سائر المخلوقات، فجدير به أن يعمله في هذه المواقف، وألا يستسلم لليأس والإحباطات من حوله، بل عليه أن ينفي عنه صفة الضعف والكسل، وليبذل الوسع في العمل بالأسباب، ويشمر عن ساعده في محاولة جادة دائمة لتغيير الأوضاع، واستنقاذ النفس، من كل الأسباب الجالبة لليأس، وأن يجاهد في الله حتى ينير الله له الطريق الصحيح ويهديه سبيل الرشد، فالله تعالى يقول: "وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ".
كما أن نشر الأمل والتفاؤل بين الناس واجب ديني، فالرسول صلى الله عليه وسلـم يقول: "يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا" فالمسلم يجب أن يكون إيجابيا في المجتمع، وأن يشيع الفرح والتفاؤل والأمل، لا أن يكون معول هدم للأنفس بتقنيطهم، وتأييسهم وإحباطهم، فهذا فيه مخالفة خطيرة لأوامر الله ورسوله، فالله فتح أبوابه حتى على العصاة المذنبين المجرمين الذي أسرفوا على أنفسهم فقال في سورة الزمر: "قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ" فالقنوط من رحمة الله وإسلام النفس إلى الشيطان، يبتعد عن المنهج الرباني في الدعوة إلى استنقاذ البشر من أعمال الشر، ومحو الذنوب والرجوع إلى الله.
ومن أوجه حث الشريعة الإسلامية على الأمل، وإشاعة البهجة والفرح، جعل من الابتسامة التي تلقى بها أخيك المسلم صدقة تؤجر عليها، وهذه معاني دقيقة وتفاصيل حياتية صغيرة، دعا الإسلام إلى إشاعتها في المجتمع المسلم، وهو ملمح دقيق، يمنح الأمل والسعادة، والمتأمل في المجتمعات المادية في الغرب والشرق والذين تكثر فيهم حالات الانتحار يجدهم مجتمعات يبخلون على بعضهم البعض بالابتسامة والبشاشة، بل تجد وجوههم مكفهرة عابسة جادة، وهذا ينعكس في تعاملهم مع بعضهم البعض، وتجهمهم في وجه الضيوف والزوار لتلك البلدان.
ومن الأشياء المعينة على طرد اليأس وفقدان الأمل هو السعي في مساعدة وخدمة الناس، فالسعي في مصالح العباد، ومساعدتهم، ومد يد العون إليهم يجعل الإنسان يشعر براحة عجيبة غريبة، وانشراح في الصدر، وهذه المعاني لا يعرفها إلا من جربها، ولا يسأل عنها إلا أصحاب الجمعيات الخيرية، وأصحاب الأيادي البيضاء المشهورين بمساعدة الناس وبذل المال والحال والجاه في خدمة المجتمع، "والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه".
0 تعليق