لعل أهم مداخلتين يطرحهما الكتاب، هي مضمون الفصل الرابع والأخير منه، حيث تقوم المداخلة الأولى حول تلقي الفن فـي ظل الفضاء الضيق، من خلال استماع المعتقلين الفلسطينيين لغناء أم كلثوم. ونحن هنا، ومن خلال كتاب دكتور حسن عبد الله من فلسطين، إذ نلاحظ كيف يستذكر المعتقلون أجواء الاستماع لأم كلثوم من خلال المذياع قبل الاعتقال، وكيف صاروا يستذكرون بعد الإفراج عنهم كيف كانوا يستمعون داخل المعتقل، لندخل فـي مسألة مهمة تتعلق بنظرية التلقي الفني.
إن أغاني السيدة أم كلثوم، فـي العادة، أغان من طراز خاص، لما تأخذه من زمن كبير من ناحية، ولما تتضمنه من شعر غنائي، كونها تحتاج إصغاء بتركيز عال، لفهم مضمون الأغنية، وليس فقط الاستمتاع الطربي؛ لذلك أشار الكاتب إلى «عدم ميل جزء من المعتقلين كمستمعين للأغاني لسماع الأغنية الطويلة قبل الاعتقال».
وهنا، فإن فضاء المعتقل هو مختبر حقيقيّ مناسب لذلك؛ حيث تنشط لديه حاسة السمع، فـي الفضاء الضيّق، ما يعني التفرغ لمعاني الأغنية، حيث هنا، وهنا فقط، يكتمل الاستماع، للفهم، والتأثر، خاصة لدى من لم يكن بالتركيز ذاته قبل الاعتقال. ولعل ذلك يتفق مع ما رآه عبد المجيد حمدان أن «كلمات الأغاني تضفـي بعدا عميقا على المعاني خصوصا القصائد الرائعة لشعراء كبار» صفحة 187.
فـي الفضاء الضيق، ثمة مجال للإصغاء والتأمل، ما يعني، ممارسة عميقة للشعور والتفكير، فـي ظل جمالية عالية، تتمثل فـي صوت أم كلثوم والألحان المميزة من كبار الموسيقيين العرب.
ودكتور حسن عبد الله، القاص والكاتب والباحث، قد اختبر بنفسه هذه الحالة، وعاش التجربة الاعتقالية ثلاث مرات: ما مبين 1981 حتى 1993. أي إننا إزاء مصداقية فـي السرد والشهادة، والتي تقدما لنا مجالا للتحليل.
أما المداخلة الثانية، والغريبة أيضا، فهي ما كشفه الكاتب، عن استماع آخرين لأم كلثوم مع المعتقلين، وهم ليسوا أي آخرين، بل هم من السجناء الجنائيين والسجانين اليهود:
فـي صفحة 196: نقرأ «المناضلون الفلسطينيون، والجنائيون اليهود، وبعض السجانين الشرقيين كانوا ينتظرون أغنية أم كلثوم المسائية التي كان ينقلها لهم مذياع المعتقل المركزي، وعندما كان يتأخر تشغيل المذياع بضع دقائق، يأخذ السجناء الجنائيون اليهود فـي الطرق على الأبواب وهم ينادون السجان وينبهونه لأغنية أم كلثوم».
وهذا ما دفع عائشة عودة تستغرب فـي روايتها: «أية مفارقة هذه أن يستمع للأغنية ذاتها الأسير والسجان؟»
ولعل المفارقة التي رأتها عائشة عودة تخف قليلا، حين ننظر للتلقي الفني من ناحية ثقافـية وسوسيولوجيا، حيث إنه بالرغم من العداء بين المعتقلين والفلسطينيين والعرب عموما مع الاحتلال الصهيوني، فإن هناك ما يربط طرفـي الصراع، ألا وهو العامل الثقافـي، حيث إن اليهود الشرقيين، خصوصا القادمين من دول عربية، إنما يلتقون فـي هذا الجانب. ولما الشيء بالشيء يذكر، فقد نقل لي العمال الفلسطينيون العاملون فـي القدس المحتلة عام 1948، أنهم وهم فـي طريق عودتهم من العمل، كانوا يلاحظون استماع عائلات يهودية لأم كلثوم فـي أحياء معينة، منها الحي الكردي.
سيكولوجيا، أورد الكاتب تحليلا نفسيا للأخصائية الاجتماعية يسرى عبد ربه، حيث رأت الظاهرة محل البحث: «فرصة المعتقل للتعبير عن نفسه كإنسان اجتماعي..لا يمكن فصل الاجتماعي عن النفسي فـي التجربة، فالإنسان المعتقل يعبر عن إنسانيته كفرد فـي إطار الجماعة يحتاج للترويح عن نفسه، من خلال الأغنية..» صفحة 185.
ويمكن هنا، تبعا لنظرية التلقي الفني، أن تتعمق الأخصائية النفسية وغيرها، فـي تفسير هذه الظاهرة، فثمة منطلقات سيكولوجية ذاتية وموضوعية داخل نفوس المعتقلين. يؤكد ذلك إجماع معظم المعتقلين على الاستماع، حتى من قبل المعتقلين من خلفـية دينية (التيارات السياسية الدينية).
ولعل هذا ما يفسّر ما وصفه د. حسن عبد الله، من طقوس الاستماع لأغاني أم كلثوم، التي كان تبثها إذاعة الاحتلال باللغة العربية (صوت إسرائيل الذي تحول فـي السنوات الأخيرة إلى راديو مكان) من خلال مذياع المعتقل؛ فقد كان الاستماع جماعيا وفرديا معا، بمعنى أن المعتقلين يتجمعون للاستماع، لكن مع منح كل معتقل فرصة الاستماع وحده دون التشويش حيث «يسود الصمت»، أكان جالسا أو يتمشى. وحتى يكتمل المشهد، فإن المعتقلين أصبحوا يعدون أنفسهم لهذا الطقس، من خلال تخصيص عدد من السجاير، كذلك تغطية الشاي والقهوة، كي تمتلكا ما بوسعهما من الحرارة.
اجتماعيا، صار لساعة الاستماع حيّز زمني، يربط نشاطات المعتقلين بموعد الأغنية، قبلها وبعدها.
أما آثار الاستماع: فقد أشار إلى أن ذلك «يرى بسهولة علامات ظاهرة على الوجه تشير إلى فرح أو شجن أو حزن عميق» صفحة 194.
أما ما بعد الاستماع فـ«كان المعتقل يحتاج إلى بعض الوقت لكي يخرج من أجواء الأغنية، إما بالاستمرار فـي دندنتها بينه وبين نفسه، أو يحتاج إلى تدرج ربما يستغرق دقائق للعودة إلى وضع ما بعد الأغنية» صفحة 198.
وكان ذلك الطقس ملهما لكتابة رسائل، أو كتابة أدبية، مثل القصة التي كتبها د. حسن عبد الله نفسه، بعد الاستماع مرة إلى أغنية «أراك عصيّ الدمع» لأبي فراس الحمداني، والتي كانت بعنوان: أبو فراس الحمداني يزور معتقل النقب. (ظهرت فـي مجموعته (عروسان فـي الثلج) أوائل التسعينيات.
أورد الكاتب، من خلال تجربته، ومن خلال استطلاع عينة من 50 معتقلا حول الظاهرة، محل البحث، قبل اعتقال وخلاله وبعده، أن تأثير الاستماع لأم كلثوم بشكل خاص تمثل فـي رؤية ذلك: اختراق للحصار، وممارسة للحرية، ودواء للحد من الوجع، وتحرير الخيال، ومتنفس. فكانت مثلا أغنية «أمل حياتي» أملا بالتحرر والعودة للزوجة الحبيبة.
وكان لها أثر إثارة الحنين، مثل أغاني ارتبطت بالاعتقال، الوقت والمكان، مثل وقت المغيب، ولقاء الأسرة، ولعل ذلك هو وقت المساء الذي يتم بث أغنية أم كلثوم من إذاعة الاحتلال باللغة العربية، التي بثت أغاني أم كلثوم ما عدا تلك التي غنت فـيها لفلسطين، التي زارتها وفقا للمؤلف ثلاث مرات فـي الأعوام: 1928، 1931، و1935، وفـي واحدة منها قامت سيدة فلسطينية بمناداتها بكوكب الشرق، حيث اشتهرت بهذا اللقب.
بعد التحرر، يستمر الاستماع، وخلاله لهم تذكر ما كان من طقوس فـي المعتقل، ما يعني عمق التأثر والتأثير.
بقي أن نقول، إن مضمون عنوان الكتاب، يتمثل فـي الفصل الرابع: أم كلثوم فـي تجربة المعتقلين الفلسطينيين، بشكل خاص.
أما الفصول الثلاثة الأولى: أم كلثوم من القرية المحافظة إلى فضاء العالمية، وجدلية السياسة والفن، عبد الناصر وأم كلثوم فـي المجهود الحربي، والفلسطينيون وأم كلثوم، أنشودة حب؛ فكان يمكن إفرادها فـي كتاب خاص.
صدر الكتاب حديثا عن دار الشامل للنشر والتوزيع 2024 ووقع فـي 232 صفحة.
0 تعليق