أن يسقط النظام، أية نظام، فهو أمر وارد في كل الأوطان، أما أن يسقط الوطن فهو شيء آخر، سقوط الوطن في الحالة السورية أمر شديد الخطورة على سوريا أولا، ثم على المنطقة الإقليمية والعربية، فالمتربصون بسوريا نعرفهم ونعرف توجهاتهم، ونعرف لحساب من يعملون، فهناك جهات كثيرة موَّلت ودعَّمت ودفعت مئات الملايين منذ عام ٢٠١١، بحجة إسقاط النظام، الأنظمة تذهب أما سقوط الأوطان تحت جحافل الغوغاء والجماعات الأيديولوجية فالأمر جد خطير، خصوصا وأن هذه الجماعات المناهضة للدولة السورية تعمل لحساب قوى إقليمية ودولية، لدينا دروس كثيرة وتجارب مريرة، فقد سقط صدام منذ أكثر من عشرين عاما ولم يبرأ العراق بعد من أمراضه وأزماته، بعد أن انقسم العراقيون وفقا لمواقفهم وإيديلوجياتهم، سقط معمر القذافي وأصبحت ليبيا عصية على الوحدة، في ظل ولاءات إقليمية وجهوية، دفع الليبيون الثمن باهظا من أمنهم واقتصادهم، وتعطلت برامج التنمية في هذا البلد الذي حباه الله موارد ضخمة، لكن الموارد وحدها لا تقيم أوطانا، ثم سقط النظام في اليمن وأصبح اليمن يمنين، ودخلت البلاد في أُتون حرب أهلية عطلت الحياة، وانهارت المرافق ولم تبرأ اليمن بعد، وليس معروفا إلى أين ينتهي مصير اليمن، وفي جميع الحالات الشعب هو الذي يدفع الثمن من أمنه ورخائه.
مشاكل معظم الأقطار العربية معقدة، والأنظمة مسؤولة عن هذا التعقيد حينما راهنت على الاستقرار والأمن، بينما النيران مشتعلة في جذور مجتمعاتها، وكان أمامها فرصة الإصلاح من الداخل، وبعض الأنظمة بقيت في الحكم عقودا لكنها لم تأخذ الإصلاح بمعناه السياسي والاجتماعي على محمل الجد، وراحت تبحث عن مسكنات في السطح، ولم تتطرق إلى الإصلاح الحقيقي إلى أن جاءت الطامة الكبرى، وأصبحت الأوطان مهددة بمخاطر جسيمة، ومهما كان سوء الإدارة وعدم مقدرتها على تقديم إصلاحات حقيقية فلا يمكن أن يكون البديل هو سقوط الأوطان، لأن سقوطها ينذر بضياعها خصوصا وأن هذه الأوطان ليس لديها أحزاب سياسية ولا قوى اجتماعية قادرة على تقديم مشروع ينقذ الدولة في حالة السقوط، وكان البديل العملي والحضاري هو العمل على الإصلاح من الداخل، وكان على الأنظمة أن توجد الكيانات السياسية والحزبية المؤهلة لاستلام مقاليد الدولة، أمامنا التجارب الأوروبية والآسيوية التي واجهت مثل هذه الحالات، لكن جاء انتقال السلطة بطريقة سلسة، الكثير منها حقق نجاحات كبيرة، بينما أخفقت أوطاننا لافتقادها إلى القوى الاجتماعية والسياسية القادرة على تقديم برامج تمكن الدولة من استعادة قدرتها على الاستمرار والبقاء.
الحالة السورية معقدة .. نعم، وقد راهن النظام على الأمن منذ عام ٢٠١١، وقد حظي بدعم كبير من روسيا وإيران، لكنه لم يحظ بذات القدر من الشعب السوري، هذه حقيقة، وطوال هذه السنوات لم يقدم مشروعا سياسيا واجتماعيا يفتح المنافذ المغلقة، ولم يقدم برنامجا سياسيا يطمئن الثائرين عليه، والذين ذهبوا إلى أحضان قوى إقليمية ودولية تعمل جاهدة على إسقاط الدولة السورية، ولا أتفهم أبدا موقف بعض دولنا العربية التي دعَّمت مشروع إسقاط الدولة السورية، حتى ولو كانت سوريا قد أقامت تحالفا مع قوى إقليمية أخرى ترى بعض هذه الدول أنها تشكل خطرا سياسيا وفكريا عليها فلا يمكن أن يكون البديل هو إسقاط الدولة السورية، التي لو سقطت لكان سقوطها سببا كافيا لوجود مخاطر هائلة على كل دول المنطقة، خصوصا وأن البديل هو جماعات النصرة وفصائل الشام وغيرهما، وهي جماعات تشكل خطرا فكريا واجتماعيا وسياسيا على المنطقة العربية برمتها.
أعتقد أن الدول العربية والإقليمية عليها أن تحدد موقفها بوضوح من الأزمة السورية، فقد لاحظنا أن بعض هذه الدول قد التزم الصمت، بينما القضية بمخاطرها لا تستوجب الصمت، فالأمر جد خطير، وترك سوريا إلى مصيرها ما بين جماعات الإسلام السياسي وما بين قوى أخرى مجاورة لحدودها تتولى التمويل والتدريب وكل أشكال الدعم هو أمر خطير، لأن النيران ليست بعيدة عن كثير من الدول العربية، خصوصا أنه بات واضحا حجم المؤامرة ومن له مصلحة في إسقاط سوريا، يبدو ذلك جليا في ظل ما تتعرض له غزة من أهوال ودمار، وما يتعرض له لبنان من مخاطر، بل وما تتعرض له أوطان عربية أخرى مجاورة لإسرائيل، بعد أن أوضحت السياسة الأمريكية في ظل الإدارة القادمة عن عزمها اللامحدود في دعم إسرائيل، وقد عبر عن ذلك الرئيس الأمريكي القادم (دونالد ترامب) عن نيته في توسع إسرائيل جغرافيا، ولم يفصح عن ملامح هذا التوسع، لعل الحرب على سوريا قد تكون بداية المشروع الأمريكي الإسرائيلي، فالواقع المأزوم في المشهد العربي يعد خطيرا، لكن الخطر الأكبر هو المستقبل المجهول، الذي ينذر بأهوال يدفع السوريون ثمنها لكن سوف تدفع أقطارنا العربية الثمن باهظا هي الأخرى.
لقد ألقى البعض باللائمة على الجيش السوري وقياداته بعد أن انسحب من المواجهة مع الجماعات المتطرفة، التي استولت على شمال سوريا خلال أقل من أسبوع، ولم تلق مواجهة تتناسب وحجم المخاطر التي تتعرض لها سوريا، ويمكن أن نتفهم ذلك في ظل اتفاقات روسية تركية إيرانية على خفض التوتر في الشمال السوري، وفي ظل معاناة الجيش السوري الذي ظل يحارب أكثر من عشر سنوات، وفي ظل الحصار الدولي على سوريا، وفي غيبة الدعم الروسي نظرا للصراع الروسي الأوكراني، كما تراجع الدعم الإيراني في ظل الحصار الأوروبي الأمريكي، وهو ما أدخل إيران في أوضاع اقتصادية وسياسية معقدة، كل هذه الأسباب حالت دون تحديث الأسلحة، فضلا عن إنهاك القوات السورية التي بقيت رابضة على الحدود كل هذه السنوات، وهو وما لا تتحمله الجيوش مهما كانت قدرتها، بينما الجماعات التي تتربص بالوطن السوري تحظى بدعم إقليمي وأمريكي وإسرائيلي، يبدو ذلك في شكل المعدات والأسلحة العسكرية التي شاهدناها في حلب وحماة، وجميعها معدات حديثة، كما حصلت هذه الجماعات على قدر كبير من التدريب والتأهيل في المؤسسات العسكرية من بعض دول الجوار، وهي حقيقة لا مجال للالتباس بشأنها.
لعل ما حدث في سوريا خلال الأيام الماضية يطرح أسئلة كثيرة، من بينها: من هو صاحب المصلحة في إشعال تلك الحرب واستقدام جماعات من كل أشتات العالم لهدم الدولة السورية؟ لعل الأمر لم يعد سرا، فإسرائيل ومن ورائها الولايات المتحدة الأمريكية ومعها الحلفاء الإقليميون هم أصحاب المصلحة الأهم في انهيار الدولة السورية لكي تكمل إسرائيل مشروعها في إقامة الشرق الأوسط الجديد، كما بشر به الرئيس الأمريكي القادم (ترامب)، وهو استكمال لما يحدث في غزة ولبنان، ولا نعرف غدا ماذا سيكون في أوطان عربية أخرى.
ثم هناك قوى إقليمية من مصلحتها انهيار سوريا، أولها تركيا التي تسعى لإقامة عمق جغرافي يسمح لها بالقضاء على الأكراد، وهي حقيقة لا ينكرها الأتراك، ثم هناك أطماع تركية في شمال سوريا، وخصوصا في حلب، وقد عبر عنها العديد من المسؤولين الأتراك، ثم هناك قوى إقليمية ـ للأسف عربية ـ لديها ثأر مع سوريا بسبب علاقتها بإيران، وهو سبب لا يستقيم وحجم المخاطر التي تتعرض لها سوريا، فضلا عن المخاطر التي يمكن أن تتعرض لها أقطارنا العربية فيما لو سقطت سوريا، وهو أمر جد خطير، لعل العرب يتنبهون ولو في الوقت المتأخر.
د. محمد صابر عرب أكاديمي وكاتب مصري
0 تعليق