جدل الإعداد والاقتباس بين الرواية والفيلم يعود للواجهة من جديد
لا شك أن هنالك روايات وروائيين يشكل حضورهم حدثا مدويّا في الأوساط الثقافية والأدبية خاصة إذا ترسخ ذلك من خلال الانتقال بالرواية من فضائها الأدبي إلى فضائها السينمائي وهي جدلية تتجدد مع الإقدام على إعداد الرواية إلى فيلم ويبرز خلال ذلك السؤال الأزلي الذي خلاصته، هل كان الفيلم وفيّا بما فيه الكفاية ومخلصا للرواية الأصلية؟
هذه الجدلية الإبداعية، الروائية، السينمائية تتجدد هذا اليوم بقوة مع مشاهدة الملايين لرواية بيدرو بارامو للكاتب المكسيكي الشهير خوان رولفو، تلك الرواية الاستثنائية التي يعود ظهور طبعتها الأولى إلى مطلع الخمسينيات من القرن الماضي وحينها لم تنل ذلك الاهتمام الذي يمكن أن نتخيله وصولا إلى طبعها بملايين النسخ وبلغات زادت على 35 لغة وبما فيها اللغة العربية بالطبع.
هذه الرواية كانت هاديا ودليلا ومعلما لتيار كبير من الروائيين الكبار في أمريكا اللاتينية نذكر من أبرزهم خوليو كورتثار وجابريل جارسيا ماركيز صاحب المقولة الشهيرة بحق الروائي رولفو أنه مثل إثر سوفوكليس في الأدب الإغريقي.
ما نحن بصدده هنا هو أقدام مدير التصوير المكسيكي ذائع الصيت رودريجو بريتو على إخراج هذه الرواية ونقلها إلى الشاشة في خطوة لا يكفي أن نقول: إنها جريئة بل إنها إضافة مهمة له ولمسيرته الطويلة في إدارة التصوير، وعلى هذا فقد حرص على تقديم خطاب بصري بليغ ومتعدد الأوجه في مقاربته لعمل روائي صعب وشديد التعقيد.
ها نحن مع المشاهد الأولى ومساحة مهمة من القسم الأول مع رحلة خوان بريكيادو – الممثل تينوش هورتا باتجاه مدينة أبيه الذي توفي وهو (بيدرو بارامو)، ذلك الأب الذي لم يره قط ويحسب أنه لا يزال حيا وذلك بالتزامن مع قرب وفاة الأم التي أوصت الابن بألا يطلب منه شيئا ويكفي أن يدفع أثمانا باهظة، لكن الابن لن يجد أمامه سوى خراب، أرض مقفرة جرداء وقرية مهجورة كئيبة ولم يبق إلا نفر قليل من بينهم ايدوفيجس صديقة والدته التي سوف تكون بمثابة مفتاح لما سوف يلي من أحداث.
واقعيا، ربما كان عزوف كثير من المشاهدين عن إكمال مشاهدة هذا الفيلم هو اختيار مخرجه لتلك اللقطات الطويلة والعامة والرتابة في كشف بيئة كئيبة ومهجورة لكنه بعد ذلك كشف عن براعة في الانتقال المتتابع والبناء السردي المتداخل للكشف عن شخصية بيدرو بارامو الرهيبة، ذلك الشخص الارستقراطي العدواني الذي يصبح مالكا لكل شيء ويصبح الناس من حوله شبه عبيد والنسوة خادمات وهو لا يتورع عن التخلص من كل من يقف في طريقه.
هذا المسار السردي المختصر لم تكن بوابته الوحيدة هي اكتشاف أسرار قرية كومالا الكئيبة والمهجورة بل في تحولها مكانيا إلى فضاء حيوي يعج بالحيوية والحياة والذكريات الجميلة وما حولها من أراض خضراء وحياة منعمة لكنها في الواقع ما يمكن أن نلخصه بأنه قصة صعود بدرو بارامو وانهياره.
وإذا تعمقنا أكثر في ذلك البناء السردي فسوف نجد كثافة تعبيرية ملفتة هي خليط من الروحانيات والخرافات والميثولوجيا ومن المعتقدات الدينية والطقوس الكنسية في كثافة وتتابع ملفت للنظر بل إن قس الكنيسة نفسه يصبح طرفا فاعلا في تلك التراجيديا المرة كمثل اعتداء أحد أبناء بيدرو على ابنة أخيه ثم مقتله بسبب سقوطه من الفرس والقول: إن تلك لعنة ثم التوقف تباعا عند شخصيات مثل سوزانا ودولوريتاس وايدفيجوس وايلا وداميانا فلكل منها محطته وتجلياته وتحولاته والأجواء المحيطة به.
وفي هذا الصدد تقول الناقدة مونيكا كاستيلو في موقع روجر ايبيرت: «إنه ليس من المستغرب أن يكون فيلم المخرج رودريجو برييتو عبارة عن قصة أشباح جذابة مليئة بالمكائد البصرية والصور السريالية، مما يمنحه تلك المساحة من البلاغة لإظهار نقاط قوته أثناء العمل وعلى استثمار أدوات بليغة في السرد الروائي.
انه يتلاعب بأشد المواقف سريالية، يطلق الخيال لأرواح ضائعة تطفو فوق فضاء القرية المهجورة ثم يغلفها بتخيلات حسية بالأبيض والأسود على الشاطئ كملاذ منعزل لأحد الشخصيات».
أما الناقدة سيدنات اتلانكها في موقع فيرايتي فتقول: إنه «مع ظهور كل قصة عن والد خوان، ينتقل الفيلم بسلاسة إلى أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين - في بعض الأحيان في اللقطة نفسها.
تتحرك الكاميرا بين الغرف التي يبدو أن أزمنة مختلفة تتكشف من خلالها، حيث تنبض شوارع كومالا الميتة وجدرانها الكئيبة بالحياة بألوان زاهية، وتبرز المساحات الخضراء المحيطة بها. مع تنقل الفيلم ذهابًا وإيابًا، يستمع خوان عن والده إلى قصص مذهلة ومن مصادر عديدة، وأيضا تلك التي يرويها بيدرو بارامو بطريقة غير خطية، بل بنسق تعبيري كثيف ومتداخل.
هنا سوف تلتقي الواقعية السحرية بملحمة عائلية عظيمة».
هذه خلاصات من قراءات متعددة تناولها نقاد كثر حول العالم تفصح عن أهمية الرواية في شكلها السينمائي وتحيلنا إلى ذلك النوع السردي الذي يمزج ما هو سرد روائي بما هو حس سينمائي عميق ولهذا لن تتوقف دورة الزمن في هذه الدراما الفيلمية في تتبع الشخصيات في تحولاتها فتارة تتم العودة إلى الماضي من خلال طفولة الشخصيات وتارة في واحدة من الأزمات التي مرت بها.
على الجانب الآخر لا تنقطع صلة بيدرو بارامو بما يدور من حوله فها هي حقبة الثورة المكسيكية وقد ألقت بظلالها ووصلت نيرانها إليه من خلال هجوم عشرات الثوار على ممتلكاته لكن دهاءه وحنكته سوف تجعله يطعمهم ويدعمهم بالمال والرجال لكي يبقى هو في منأى عن شرورهم ويبقى هو يحلق في عالمه الهلامي العجيب الذي يتوالى فيه ظهور أبناء جدد لا يعلم هو عنهم شيئا انتهاءً بالابن خوان الذي شاهد ما لا يمكن تخيله في أجواء تلك القرية الغرائبية.
والحاصل وبإجماع العديد من الدارسين للرواية فإن «بيدرو بارامو» ليست من نوع تلك الروايات التي يسهل تحويلها إلى فيلم. الحبكة الرئيسية تتعرج باستمرار، ووجهات النظر تتغير، وأحداث الرواية تنتقل ذهابا وإيابا في الزمن. وتحدث أشياء غرائبية متشابكة. وبينما تغوص في تلك الأحداث المتشابكة، قد يكون من المستحيل التمييز بين ما هو في صميم الحياة أي في اليقظة أم في الحلم. وكثيرا ما قيل: إنه يصعب تحويل تلك الرواية إلى فيلم لأنها رواية رمزية عميقة، إنها رواية مؤثرة حول الخيانة والسلطة والموت عزز قوتها هذا الفيلم المتميز.
....
إخراج رودريجو بريتو
عن رواية بيدرو بارامو للكاتب المكسيكي خوان رولفو
تمثيل: تينوش هورتا – خوان بريكيادو، ايلس سالاس- سوزانا، مانويل جارسيا رولفو – بيدرو بارامو دولوريس هيريديا – ايدوفيجوس، ايزابيل بوتيستا – دولوريتاس
إدارة التصوير/ رودريجو بروميتو
التقييمات / أي أم ديبي 7 من 10، روتين توماتو 76%، ليتر بوكس 3 من 5
0 تعليق