سقط الأسد، وبقيت سوريا. ورغم أن سوريا الجغرافيا اهتزت، فإن سوريا التاريخ والحضارة راسخة رسوخ الجبال، والتاريخ خير شفيع ومنه نتعلم ونعي الحقائق، الدول العريقة لا تسقط، تتعرض لأزمات وتواجه كبوات، ثم تنفض شعوبها الغبار عنها.
احتفل الشعب السوري وعاش الفرحة بزوال النظام وغادر الرئيس السابق البلاد سراً، واستولت فصائل مسلحة على السلطة على أمل قيام سوريا جديدة، سوريا لكل السوريين من دون تمييز على أساس طائفي أو مذهبي أو عرقي أو مناطقي، وهي سوريا التي يحلم بها أبناؤها وأشقاؤها الذين يدركون أن تعافي سوريا تعافٍ للعروبة وللمنطقة، ولكن كيف يتحقق التعافي بعد أن تعرضت سوريا لزلزال في أعقاب السقوط؟
لقد استغلت إسرائيل عملية التغيير، وفتحت شهيتها على العدوان والتوسع، باحتلال أراض واسعة من مرتفعات الجولان، وتقوم بأكبر عدوان عليها، عدوان بري وبحري وجوي، أكثر من 350 غارة دمرت ما تبقى من مظاهر قوتها، المطارات العسكرية بكل ما فيها من طائرات وأسلحة وعتاد، والقواعد وسلاح البحرية، ومعامل البحث العلمي، ومخازن السلاح والذخيرة، كما بدأ غيرها يخططون للتقسيم. كل ذلك حدث في ذات يوم سقوط النظام. لم تكتف إسرائيل بالتدمير، بل احتلت المنطقة العازلة بين الجولان المحتل وريف دمشق، وجلست فوق قمة جبل الشيخ أعلى قمة في سوريا ولبنان، لتراقب الجميع من هناك.
ليس جديداً على إسرائيل انتهاكها لاتفاقية فض الاشتباك الموقعة بينها وبين سوريا عام 1974، فهي الدولة التي تنتهك القوانين الدولية. أمريكا لم تدن إسرائيل على خرقها اتفاقية دولية تم توقيعها برعايتها، ولم تدن احتلال أرض في دولة ذات سيادة، وأضعف الإيمان لم تلتزم الصمت ولو من باب حفظ ماء الوجه، ولكنها بررت كالمعتاد، وكأن العدوان على سوريا ليس سوى حلقة من سلسلة اعتداءات لتوسيع جغرافية إسرائيل ورسم خريطة جديدة للشرق الأوسط حسب نتنياهو ذاته.
تبارى كبار المسؤولين الأمريكيين وعلى رأسهم مستشار الأمن القومي ووزيرا الخارجية والدفاع وبايدن نفسه، في منح إسرائيل الحق في الجرائم التي ارتكبتها وترديد ما يروجه نتنياهو بأن عدوانه على سوريا هو خشية وصول الأسلحة السورية إلى يد من يسيء استخدامها أو يستخدمها في عمليات ضد دولته، وهو ما يمنح أي دولة في العالم حق العدوان على أي من جاراتها في حالة حدوث قلاقل أو ثورات فيها لتلتهم الدول بعضها بعضاً، وتسود الفوضى قلب وأطراف الكوكب.
سوريا الجديدة أمل لكل السوريين ولكل العرب، ولكن ضغوطاً كثيرة تمارس عليها منذ أول أيام سقوط النظام، وهو ما يضعها في مواجهة مع مستقبل مجهول، فكل دولة من الدول الضاغطة تريد تفصيلها على مقاسها، متجاهلةً الشعب السوري الذي ينبغي أن يكون صاحب القرار ومصدر السلطات، يريدونها دولة بلا قوة، وهم الذين دمروا مقدرات جيشها وحولوها إلى دولة ضعيفة.
يريدونها دولة واحدة موحدة وهم الذين يقضمون أرضها في أكثر من جهة ويسعون لتقسيمها، يريدونها دولة مدنية، وهم الداعمون لسيطرة فصائل غير مدنية، يريدونها دولة غير طائفية وهم الذين يدعمون طوائف، يريدونها دولة حامية لحقوق الإنسان وحقوق الأقليات وهم الذين اعتدوا على جميع حقوق الشعب السوري.
سوريا كانت البوابة الشرقية للعالم العربي، وكانت منارة للفكر والحضارة والإبداع، والأمل في أن تظل كذلك، ولن تحييه سوى إرادة السوريين وقراءة ما يحدث حولهم من منظور أمني بعد أن تنتهي نشوة الفرح ليواجهوا الضغوط والتحديات على قلب رجل واحد، ويبنون سوياً دولتهم المدنية التي يحلمون بها، وخصوصاً أنهم شعب يمتلك من الخبرة والحكمة ما يمكنه من التمييز بين من يريد لهم المستقبل الأفضل ومن يريد العبث بمصيرهم.
0 تعليق