في رواياته المبكرة التي صدرت في الثلث الأخير من القرن الماضي، أثار روبن كوك قضايا كثيرة تتعلق بأخلاقيات الطب وتمويل الأبحاث العلمية من روايته الأولى المشهورة التي تحولت إلى فيلم «غيبوبة» وغيرها.
ولأن روبن كوك أصلاً طبيب وجراح عيون فهو يعرف عن الأبحاث الطبية ويبحث في العلوم بمعرفة الدارس لها وليس فقط الكاتب المتمكن. أتذكر حين التقيته في بيته في بوسطن، ماساشوستش، قبل أكثر من ثلاثة عقود كان النقاش لساعات حول أخلاقيات البحث العلمي في وقت بدأ التحول من تمويل الدول والحكومات لمراكز البحوث إلى الشركات وصناديق الأعمال.
في ذلك الوقت كان التحول في بدايته، وكانت الدول والحكومات ما زالت تمول مراكز الأبحاث والدراسات العلمية في الجامعات، وإن بدأت الشركات والأعمال تمول مراكز أبحاث خاصة بها. صحيح أن شركات الأدوية والمستحضرات دوماً لديها مراكز أبحاثها التي تطور وتبتكر العلاجات، لكن حتى ذلك الوقت كانت تتلك الدراسات والأبحاث والمبتكرات تخضع للتمحيص والتدقيق العلمي الرسمي بما يجعلها قريبة من أبحاث ودراسات المراكز الأكاديمية الرسمية.
بمرور الوقت، ومع تراجع الإنفاق الحكومي على قطاعات كثيرة نتيجة ضغوط الميزانيات وعجزها، بدأ تمويل البحوث والدراسات يقل شيئاً فشيئاً. وفي سياق تغير السياسات الاقتصادية في الدول المتقدمة بدأت الشراكة في التمويل من قبل القطاع الخاص مع القطاع الحكومي حتى وصلنا حالياً إلى شبه تدهور للتمويل الحكومي واعتماد أبحاث العلم ودراساته على الشركات والأعمال الخاصة.
قد يبدو ذلك تطوراً جيداً في ظاهره، طالما يتوفر التمويل للبحوث والابتكارات، ففي النهاية كله يصب في مصلحة المجتمعات والبشرية كلها. إلا أن الشركات والأعمال لها منطق مختلف حين تستثمر في الأبحاث والتطوير، فالهدف النهائي لها هو زيادة العائدات وهامش الربح. ورغم القواعد واللوائح والمعايير الحكومية، إلا أن ضمان المصلحة العامة يأتي في المرتبة التالية بعد العائد والربح.
ربما تكون روايات الإثارة الطبية لروبن كوك مغالية في الخيال لأنها في النهاية إبداع فني، لكنها بالتأكيد تستند إلى واقع يقلق الناس منذ عقود سواء بالنسبة لتجارة الأعضاء بشل غير قانوني إلى إنتاج الأدوية التي تطيل أمد الأمراض المزمنة من دون أن تعالجها، أو تنهي حياة المريض، وذلك لاستمرار وجود الطلب في السوق وتحقيق الشركات عائدات أكبر.
لا تنظر الأعمال والشركات إلى الأمر على أنه «مؤامرة»، بل إن بعضها يعتبر «التحايل» على القواعد والمعايير «شطارة» في طرح مبتكرات جديدة – وتبرع شركات الدعاية والترويج والتسويق في تقديم مخرجات الأبحاث العلمية على أنها «أفضل ما يمكن لصالح البشرية»! حتى لو اكتشفنا فيما بعد كمية الأضرار الجانبية لتلك المنتجات التي أبدعتها الأبحاث الممولة بشكل خاص.
على مدى العقود الأخيرة تطور الوضع حتى أصبحت الأبحاث والدراسات الممولة حكومياً ومن ميزانيات الدول شبه معدومة لصالح تلك الممولة من الشركات والأعمال الخاصة. ومع أن الدول والحكومات تسنّ قوانين وتشريعات تحكم أخلاقيات البحث العلمي وتحاول أن تضمن – نظرياً على الأقل – أن تكون مخرجاته للصالح العام وتلبي احتياجات المجتمع، إلا أن الواقع يختلف كثيراً.
ربما تعد البيروقراطية، واحتمالات الهدر وعدم الكفاءة المالية، سبباً لتراجع اعتماد الحكومات ميزانيات لتمويل البحث العلمي وترك الأمر للقطاع الخاص باعتباره أكثر كفاءة في الحصول على نتائج تقابل الاستثمارات. لكن المحصلة النهائية أن توجهات البحث والتطوير تأخذ منحى يعتمد منطق الأعمال والربحية التجارية أكثر من الإبداع لصالح البشرية بغض النظر عن الكلفة.
ومع استمرار التدهور في المؤسسات الأكاديمية الحكومية والرسمية نتيجة خفض الميزانيات ونقص التمويل والاعتماد على مساهمات الشركات والأعمال والمتبرعين الأثرياء، وصل العالم إلى حالة أكثر تعقيداً مما كانت تثيره روايات روبن كوك الخيالية قبل ذلك بسنوات. ولم يعد الأمر قاصراً على البحوث الطبية والدوائية، بل أصبح في كافة مجالات البحث العلمي والابتكار والتطوير من الهندسة إلى العلوم الإنسانية. وأصبحنا الآن، مع صعود قوى جديدة للحكم في أغلب الدول المتقدمة لا تقيم وزناً كبيراً للعلم والمعرفة التقليدية إنما تعتمد على «الفهلوة» في سياق «الشعبوية السياسية»، نواجه قادة وحلفاء لهم يريدون وقف كل التمويل الرسمي للأبحاث والتطوير وقصر ذلك على الشركات، من تطوير البرمجيات المتقدمة إلى الصواريخ ومركبات الفضاء. فهذا الرئيس القادم لأكبر وأقوى دولة في العالم يطلق يد داعمه الأول في حملته الانتخابية ليحدد ما يمكن إلغاؤه من برامج تمولها الحكومة.
فلن يتردد دونالد ترامب في أن يوافق للملياردير إيلون ماسك على أن تقتص شركاته، مثل «سبيس إكس» وغيرها، ميزانيات البحوث والتطوير المخصصة لوكالة الفضاء الرسمية «ناسا» وحتى لأقسام البحوث والتطوير في وزارة الدفاع (البنتاغون). وسيكون تبرير ذلك بشعارات براقة على أنه «وقف للهدر البيروقراطي الحكومي لصالح الإنجاز الأكبر من الشركات الخاصة». وسنجد تعليقات وتحليلات تحيط تلك السياسات بهالة من الإنجاز والكفاءة.
في الوقت الذي يكاد يكتمل فيه هذا التحول للعلم وتمويل أبحاثه في الغرب من الدولة إلى الأعمال، ربما يطمئننا أن هناك دولاً صاعدة ما زالت تعتمد حكوماتها ميزانيات كبيرة لتمويل ودعم البحث العلمي في الجامعات ومراكز الأبحاث الرسمية. من تلك الدول الصين والهند، بل وبعض دول الخليج العربية.
0 تعليق