إنه الصراع الضاري على سوريا مجدداً. في ثمانينات القرن الماضي أصدر الكاتب البريطاني الراحل «باتريك سيل» كتاباً مرجعياً عنوانه: «الصراع على سوريا» عن الفترة ما بين عامي (1945) عند نهاية الحرب العالمية الثانية و(1958) مع بداية الوحدة المصرية السورية.
يوحي العنوان الفرعي لذلك الكتاب بمنهجيته واتساع نظرته: «دراسة في السياسة العربية بعد الحرب».
لم يكن ممكناً أن يُكتب عن سوريا والصراع عليها بعيداً عما يحدث من تفاعلات وصدامات استراتيجيات ومصالح في عالمها العربي، خاصة الصراع العربي الإسرائيلي.
هذه الفرضية تتأكد صحتها الآن في أحوال تراجع عربي فادح. أين نقف بالضبط مما يحدث في سوريا من زلازل سياسية تؤثر بالضرورة في المنطقة كلها بحكم موقعها الجيوسياسي الفريد؟
إذا لم تكن الإجابات واضحة ومحددة، تفقد حرمتها واحترامها. لم يكن مستغرباً أن تهرول دول إقليمية ودولية للاستثمار السياسي والاستراتيجي في الانقلاب الذي ضرب مشرق العالم العربي مع سقوط دمشق في قبضة جماعات إسلامية تُدمغ دولياً بالإرهاب.
لم تكن تركيا وإسرائيل، على وجه التخصيص، في انتظار دعوة من أحد للتدخل وفق مصالح واضحة ومحددة. تركيا خططت وهندست ما أُطلق عليها عملية «ردع العدوان»، وإسرائيل كانت في صورة المعلومات الأساسية، وبدت مستعدة ومتأهبة للخطوة التالية. التقت استراتيجيات ومصالح وانتهى أمر النظام السابق في عشرة أيام.
نافس اللاعبان التركي والإسرائيلي بعضهما الآخر في نسبة سقوط النظام السابق إليه قبل غيره. التركي الأكبر دوراً.. لكن الإسرائيلي المستفيد الأول.
بين أهداف الهرولة الأمريكية إلى دمشق، عبر وزير خارجيتها أنتوني بلينكن، تطويع حكامها الجدد لمقتضيات أمن الدولة العبرية، وإغلاق صفحة كاملة في الصراع مع إسرائيل.
لم تهرع الولايات المتحدة، ولا أعطت الضوء الأخضر للاتحاد الأوروبي، أن يتبعها إلى دمشق، إيماناً بقيم إنسانية ودعم الديمقراطية وحقوق الإنسان والمواطنة!
كان تجريد سوريا من مخزونها التسليحي وقدراتها البحثية بمئات الغارات الإسرائيلية خطوة مقصودة حتى تكون ضعيفة وتابعة، وبقاء نظامها مرهوناً بما تطلبه تل أبيب. تبدت في الوقت نفسه إشارات متواترة من القيادة السورية الجديدة، كإعلان أنها ليست في وارد أي صراع مع إسرائيل.
هذه مجرد بداية. بدورها تعرف تركيا ما تريده بالضبط. الملف يتولاه وزير خارجيتها حاقان فيدان، الذي تابعه بأدق تفاصيله من موقعه السابق كرئيس للاستخبارات لمدة ثلاثة عشر عاماً.
الوضع لا يزال سائلاً، وحقائقه سوف تتضح تباعاً. كان انفراد «هيئة تحرير الشام»، «جبهة النصرة» سابقاً، المنحدرة من تنظيم «القاعدة» بتشكيل الحكومة المؤقتة من دون أية مشاورة مع القوى الأخرى، إشارة مبكرة لما قد يحدث في الأيام المقبلة.
نذر الفتن الطائفية بدأت تتفاعل في الجسد السوري المنهك، قابلتها دعوات تتبنى الحسم بالقوة مع أية احتجاجات تدعو إلى المواطنة وحقوق المرأة وحماية حقوق الأقليات باسم العلمانية.
افتقدت مداخلات «أحمد الشرع» زعيم «جبهة تحرير الشام» أي وضوح بشأن طبيعة الدولة ووضع الأقليات والحريات العامة، التي قال إنها معلقة على دستور لم يكتب فيه حرف واحد حتى الآن.
النزوع إلى مصادرة الحريات لا يوفر ثقة في نجاح الحوار الوطني الذي يدعو إليه حكام دمشق الجدد.
كما لا تتوفر ثقة أخرى في الأسباب التي دعت إلى إلغاء التجنيد الإجباري والطريقة التي يُبنى بها الجيش الجديد اعتماداً على دمج الفصائل المسلحة تحت مظلة وزارة الدفاع.
المعضلة هنا أنه لا توجد قواعد تُلزم الجميع باحترامها، وفوضى السلاح قد تفضي إلى اشتباكات تنهك سوريا بأكثر مما هي منهكة.
الملفات الملغمة كلها تقع في مسؤولية اللاعب التركي قبل غيره. ذهبت السَّكْرة وجاءت الفكرة، كما يقول المثل الشعبي. المهام تقارب المعضلات والانفجارات غير مستبعدة. وما بدا أنه توافق ضمني إسرائيلي تركي مرشح للتصدع.
إذا ما لجأت تركيا إلى ضم أية أراضٍ سورية بذريعة أو أخرى، فإن إسرائيل سوف تحتذي السلوك نفسه دون تردد.
المعضلة التركية الرئيسية في سوريا عنوانها: «الأزمة الكردية»، التي تنطوي على تداخلات أمريكية وأوروبية تضع حداً لفكرة اجتثاث الوجود السياسي الكردي، الذي يصفه أردوغان بالإرهابي.
بلغة المصالح، تطمح تركيا حسب وزير النقل والبنية التحتية ل«عقد اتفاق مع سوريا الجديدة يرسم الحدود البحرية بين البلدين».
إنها محاولة للاستثمار الاقتصادي في «سوريا الضعيفة» لصياغة اتفاق يماثل ما جرى فرضه على ليبيا، التي تعاني ظروفاً مماثلة بما أفضى إلى أزمات متفاقمة مع دول أخرى كمصر واليونان وقبرص.
رغم الضعف السياسي الظاهر في مركز العالم العربي، فإن لديه أوراقاً تمكنه من التحكم بصورة أو أخرى بمسار الحوادث المتدافعة.
الأوضاع المالية الحالية لا تساعد اللاعب التركي على سد فجوات الاقتصاد السوري المنهك، أو الاضطلاع بأية أدوار تمويلية لإعادة إعمار سوريا. هناك حاجة ماسة لإسناد عربي من دول الوفرة المالية.
هذا كلام له ثمن سياسي، إذا ما أردنا أن تؤخذ بشيء من الجدية مقررات الاجتماع الوزاري العربي في العقبة، وأهمها التزام القرار الأممي (2254) ك«خارطة طريق محددة وملزمة للانتقال السياسي».
أين نقف بالضبط إذاً؟! الإجابة: حيث تكون سوريا حرة تمتلك قرارها وتتسع لكل مواطنيها دون تخلٍّ عن القضية الفلسطينية، أو العودة إلى عصور الظلام.
0 تعليق