د. صلاح الغول
عقب الهجوم المباغت الواسع النطاق للفصائل السوريّة المسلحة، بقيادة «هيئة تحرير الشام»، على قوات الجيش السوري في إدلب وحلب، في أواخر نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، أكّد وزير الخارجية التركي هاكان فيدان أنه أجرى اتصالات مع نظرائه الروس والإيرانيين لإقناعهم بعدم اعتراض التحرك العسكري الذي بدأته المعارضة السورية. وقبيل سقوط نظام بشّار الأسد في سوريّا، في 8 ديسمبر/ كانون الأول المنصرم، بشّر الرئيس رجب طيب أردوغان بعملية انتقال هادئة. وقد دعمت تركيا فصائل المعارضة السورية المسلحة المنخرطة في إدارة العمليات العسكرية بقيادة «هيئة تحرير الشام» في شن هجوم 27 نوفمبر/ تشرين الثاني 2024، والذّي انتهى، بعد اثني عشر يوماً فقط، باقتحامها العاصمة دمشق وإسقاط النظام البعثي الذي هيمن على سوريا لأكثر من 50 عاماً.
والحق أنّ تركيا هي الرابح الأكبر من سقوط النظام السوري. فقد تخلصت من القوى المنافِسة (روسيا وإيران) على حدودها الجنوبية، وأخذت في التخفف تدريجياً من عبء استضافة نحو 3 ملايين لاجئ سوري، وما كان يسببه من اضطرابات سياسية وضغوط اقتصادية. علاوة على ذلك، فإنّ بمقدور أنقرة الآن الحيلولة دون قيام أي كيان كردي (ولو كان في شكل إدارة للحكم الذاتي) على حدودها الجنوبية، بل ويمكنها الآن إنشاء منطقة عازلة على طول هذه الحدود يحميها أو يملؤها حلفاؤها من «الجيش الوطني السوري» وغيره من الفصائل الموالية لأنقرة. والأهم من ذلك هو النفوذ الكبير الذي أصبحت تحوزه تركيا في سوريا الجديدة، لدرجة أنّ الرئيس الأمريكي المنتخب، دونالد ترامب، اعتبرها مفتاح البوابة السوريّة، بل وأعطى الانطباع بأن سوريا في يد تركيا.
وتتابع تركيا استراتيجية طموحة للانتقال السياسي في سوريا، وأصبحت عرّاب الحكم الجديد بقيادة أحمد الشرع. وفي هذا الخصوص، أعلنت أنقرة تقديم كل أشكال الدعم للإدارة الانتقالية في دمشق من أجل إنجاح عملية الانتقال السياسي، وتقود هجوماً دبلوماسياً للترويج للقيادة السوريّة الجديدة.
وبتأثير الحدث السوري، يُرجح أن يشهد عام 2025 اللحظة التركية في الشرق الأوسط، والترجمة العملية للعثمانية الجديدة، وهي السياسة التي يتابعها حثيثاً «حزب العدالة والتنمية» برئاسة أردوغان منذ توليه الحُكم عام 2003. ويُقصد ب«العثمانية الجديدة» أنّ تركيا تتصور لنفسها دوراً فعّالاً وقائداً في الشرق الأوسط، الذي كان بالفعل تحت الهيمنة التركية خلال فترة الإمبراطورية العثمانية منذ الثلث الأول من القرن السادس عشر حتى أواخر القرن التاسع عشر على الأقل. كأنّ العثمانية الجديدة، وكما يوحي بذلك اسمها، هي دعوة لإحياء فترة الحكم العثماني لبلدان المنطقة في صورة جديدة، تتضمن النفوذ السياسي والاقتصادي والثقافي الواسع النطاق.
ويُلاحظ أنه في بعض الكتابات يُطلق على «العثمانية الجديدة» مُسمى «التوجه نحو الشرق»، بمعنى تعزيز الانخراط المتعدد المجالات مع دول الشرق الأوسط (وروسيا والصين والهند وغيرهم)، بالموازاة مع استمرار العلاقات مع الغرب سواء مع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة أو حلف الناتو.
وللعثمانية الجديدة جذور تعود إلى فترة حكم الرئيس تورغوت أوزال، الذي حاول إعادة هيكلة السياسة التركية تجاه الشرق الأوسط، ولعب دوراً أساسياً في حرب الخليج الثانية (حرب تحرير الكويت) عام 1991 وما بعدها عن طريق التدخل العسكري المتكرر في شمالي العراق لمنع تحوله إلى بؤرة لنشاط حزب العمال الكردستاني «المحظور» في تركيا، بل ونجح أوزال في تأسيس وجود عسكري تركي في إقليم كردستان-العراق. بيد أنّ «العثمانية الجديدة» بطبعتها الراهنة جزء من إطار فكري-حركي أو أيديولوجي أوسع، يُسمى «الأردوغانية»، التي تسم الحياة السياسية في تركيا في الوقت الحاضر والمستقبل القريب.
وتشير «الأردوغانية» إلى هيمنة أردوغان على الحكم والسياسة منذ عام 2003، وتحويله النظام السياسي التركي إلى نظام رئاسي عام 2018، وفوزه في انتخابات الرئاسة التركية المتعاقبة منذ 2014، ونجاحه في إعادة توجيه سياسة تركيا الخارجية. و«الأردوغانية» هي مزيج من القومية «الطورانية» والمحافظَة-الإسلامية «النورسية» والليبرالية الاقتصادية «الجديدة».
وفي المكون القومي وتوجهها الرئيسي نحو الغرب تتشابه «الأردوغانية» مع الكمالية. وفي التوجه نحو الشرق، يسير أردوغان على خطى أوزال، وأستاذه السابق نجم الدين أربكان مؤسس حزب الرفاه (القديم) الذي تنشّأ أردوغان سياسياً فيه. وفي المحافظة والتمسك بالقيم الإسلامية الأساسية ينهل أردوغان من النورسية. وفي الاقتصاد وشؤونه نجد أنّ الأفكار الليبرالية الجديدة سائدة في برنامج «حزب العدالة والتنمية».
وقد اختبر توجه العثمانية الجديدة في السياسة التركية تجاه الشرق الأوسط درجات مختلفة من التصدر والظهور والتواري، بحسب مقتضيات الظروف الدولية والإقليمية. ولكن الفترة التي أعقبت اندلاع ما يسمى «الربيع العربي» في عام 2011، شهدت تنامياً للدور التدخلي التركي في المنطقة، وتصاعداً لافتاً للعثمانية الجديدة.
وتشهد العثمانية الجديدة الآن فترة زخم غير مسبوقة، ليس فقط في سوريا، وإنما في ليبيا والسودان وغزة ومنطقة الخليج العربي. فهل تكون العثمانية الجديدة، بطبعتها الأردوغانية، مشروعاً للهيمنة الإقليمية، وما يعنيه ذلك من تغيير الخريطة الجيوسياسية والاقتصادية للمنطقة، وتجديد الإرث العثماني؟ أم يُسهم الدور الإقليمي التركي «القائد» في تحقيق الاستقرار في أكثر مناطق العالم صراعاً واضطراباً، والتنمية الاقتصادية والرخاء المشترك لشعوب المنطقة، كما يَعد أردوغان؟ لننتظر ونرَ!
0 تعليق