قبول الآخر وآفاقه - ستاد العرب

0 تعليق 0 ارسل طباعة تبليغ حذف

تتكرّر عبارة قبول الآخر دائماً في الخطاب الثقافي والإنساني والحقوقي والاجتماعي، بل وحتى السياسي، ويتم تبريرها بمفاهيم كثيرة ومتنوعة، منها ما يستند إلى حقوق الإنسان، ومنها ما يشير إلى الانفتاح الفكري، ومنها ما يعود إلى المفهوم الديني، وهناك فئة تجمّل هذا المفهوم بالموقف الحضاري، أي أن الإنسان الحضاري هو الذي يقبل بالآخر، بمعنى أنه يقبل حضارته بما تشمله من عادات وتقاليد وأفكار وأسلوب حياة ومعتقدات وطقوس. ومن الأهمية بمكان التفريق بين قبول الآخر ككائن بشري بلونه ولغته وعقيدته وثقافته، وقبول رأيه، المعبّر عن موقفه. والقبول هنا لا يعني الموافقة والتأييد، وإنما الاعتراف بحقه في إبداء رأيه.
ونحن نتحدث في هكذا عبارات، مثل قبول الآخر، نحن نمارس، أو نحاول ممارسة المثالية في أبعد تجلياتها، وهذه الممارسة فكرية وليست عملية. ولو ألقينا نظرة سريعة على الشعوب والأعراق والمجموعات البشرية، سنجدها كلّها تفخر وتعتز بثقافتها وحضارتها ومحتواها الحضاري، أو لنقل تاريخها وتراثها وإنجازاتها، ولو مارسنا الموضوعية، سنجد شعوباً كثيرة لا تتفق، لا شكلاً ولا موضوعاً، مع أساليب حياة ومعتقدات ومواقف شعوب أخرى، بل إنها تصطدم بها ومعها بقوة، وقد يؤدي هذا الاصطدام إلى مصطلحات مثل: التمييز، التكفير، الاحتقار، الرفض، وهكذا، حتى يصل إلى العداء، ما يعني محاولة الإلغاء عن طريق إلحاق الهزيمة الشنيعة، والتدمير. وقد لا نختلف كثيراً إذا قلنا إن هذا الاختلاف وعدم قبول الآخر، أي عدم الموافقة على محتواه الثقافي، هو الذي أدى إلى صراعات وحروب طاحنة، لا تزال تدور حتى يومنا هذا. وبما أنه من الصعوبة بمكان تحقيق الانصهار البشري الإنساني، أي تحقيق التلاقح والتوافق الثقافي الجمعي، فإن البشرية ستبقى تشهد صراعات، سأصفها بالعقيمة، حتى تقوم الساعة.
هل هذا يعني أن مصطلح قبول الآخر مصطلح مثالي وفضفاض ولا يمكن له أن يتحقّق إلا في أوساط المثقفين والمفكرين، الذين يؤمن بعضهم أيضاً بلا جدوى هذا المصطلح المتفجّر، الذي لم يستقر في القاعدة الشعبية ولا عند المتعلّمين أو المثقفين! وإن البشرية ما زالت في حاجة إلى توعية تأسيسية ومناهج دراسية مختلفة لتصل إلى مبدأ قبول الآخر، الذي يسير جنباً إلى جنب مع مبدأ التسامح. ونعترف هنا بأن الحوار يطول بين المفكرين، ويحتدم بين عامة الشعب إلى درجة تؤدي إلى التشابك بالأيدي، وربما القتل. يحدث هذا في عصر الانفتاح العالمي وتدفّق المعلومات، ويحدث هذا في عصر وُصفت فيه المجتمعات البشرية بالقرية الصغيرة، نتيجة التطور في مجال الاتصال والتقنيات الإعلامية والتكنولوجيا، ويحدث هذا في عصر توجد فيه أمم متحدة، وفي الواقع هنالك «أمم» وليست «متحدة»، ويحدث هذا أيضاً في عصر ينتشر فيه الاختصاصيون في التنمية البشرية، والمروجون للإيجابية والتسامح كالنار في الهشيم.
أما لو أردنا مناقشة «قبول الآخر» في المجال السياسي لوجدناه يعاني أزمات حادة وكثيرة، كادت تؤدي إلى حرب عالمية ثالثة، مثلما أدى عدم قبول الآخر إلى حربين عالميتين راح ضحيتهما عشرات الملايين من الجنود والعسكريين والخسائر المادية والثروات الطبيعية والبشرية. وتأخر الحرب العالمية الثالثة لا يعني أن قبول المبدأ في تحسن، وإنما كثرت وسائل الردع وتعاظمت، وتقبل القوى بعضها على مضض، ولا أبالغ إذا قلت إنهم يتحينون الفرص ليسيطر كل على الآخر، فلا الولايات المتحدة الأمريكية تقبل بالصين، ولا كوريا الجنوبية تقبل بالشمالية، ولا إسرائيل تقبل بالفلسطينيين ولا الفلسطينيون يقبلون بإسرائيل، ولا روسيا تقبل بأوكرانيا والعكس صحيح. ولو دخلنا أكثر داخل الدول سنجد الانقسامات، إن كانت طائفية أو عرقية أو اجتماعية أو سياسية أو فكرية، والتواقون إلى الانفصال كثيرون، ولو أتيح المجال لوجدنا مئة دولة جديدة خرجت إلى الوجود.
سنتعمّق أكثر في مناقشة المصطلح أو المبدأ وربما «نتفلسف» ونطرح السؤال الكبير: هل نقبل أنفسنا قبل قبولنا للآخر؟ هل نحن راضون عن أشكالنا وأحوالنا وألواننا وأحجامنا وملامحنا وأعمارنا؟ لو كانت الإجابة ب «نعم»، لما وجدنا هذا الازدهار والإقبال على دراسة الطب التجميلي، ولما وجدنا هذا الإقبال على العمليات الجراحية لتغيير أشكال وأحجام أجزاء من أجسادنا وملامحنا، حتى صرنا نرى تشابهاً كبيراً بين الناس، نساءً ورجالاً، نعم حتى الرجال يلجؤون إلى عمليات التجميل لتحسين مظاهرهم وإن دل هذا على شيء فإنه يدلّ على عدم قبولنا بملامحنا وذواتنا، وعدم قبولنا بملامح الآخرين. وسعى أطباء التجميل إلى إيجاد موديلات، نسائية ورجالية، تحولت إلى نماذج للجمال، وفي الواقع، وهذا رأي شخصي، هو تشويه للجميل، ورأيي لا يتناقض مع مبدأ قبول الآخر، ونحن لا نناقش المسألة من منظور أخلاقي، ولكن من منظور ثقافي، فقبول الإنسان لنفسه يعكس الرضا والثقة والاطمئنان، ولا نتحدث هنا عن إصلاح العيوب والتشوهات نتيجة العمليات الجراحية أو الإصابات والحوادث، فبعضها مشروع ومطلوب وضروري.
أعلم أن المصطلح إشكالي ومثير للنقاش والجدال، ورغم ذلك، أعتقد بأهمية بذل الجهود من قبل التربويين لإنشاء أجيال تقبل بالآخر، وتقبل ذاتها في المقام الأول، كي يسود السلام والطمأنينة.

[email protected]

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق