د. يوسف مكي
أمين الريحاني، أديب وباحث وروائي ومؤرخ لبناني، يعدّ من دعاة الإصلاح الاجتماعي، عاش في الفترة ما بين عامي 1876- 1940. ولد بقرية الفريكة بجبل لبنان، وحمل لقب فيلسوفها. هاجر إلى الولايات المتحدة الأمريكية، ومنها عاد للمشرق العربي، متجولاً في أروقة البلاطات العربية، يقابل الملوك والأمراء ويكتب عن سيرهم.
في أعماله الكاملة، التي صدرت في ستة مجلدات، عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر (بيروت 1983)، ركز المجلد السادس، بشكل مباشر، على المسألة القومية، والوحدة العربية. أما المجلدات الأخرى، فتجد فيها شذرات متناثرة عن القومية والعروبة.
ومع أن من غير الممكن الفصل، بين العلاقات التي ربطت الريحاني بالإدارات البريطانية والأمريكية، والملوك العرب، وبين منظومته الفكرية، والتي بقيت موضوع مساجلات بين عدد من المثقفين العرب، فإن هذا الحديث سيركز على قراءة النصوص، ومتابعة تطور فكره القومي وموقفه من الوحدة العربية.
في نقد واضح للصحافة الغربية التي ترى أن العرب غير مؤهلين للاستقلال، وتأسيس حكم نيابي، يرد الريحاني بالقول: «إن الشمس المشرقة علينا من المغرب اليوم هي شمس آدابنا، وشمس مجدنا الغابر. وإنكم إذا نظرتم إلى خريطة العالم ترون أن من البلاد ثلاثاً آخذة مركز القلب، هي بلاد الشام وما بين النهرين وجزيرة العرب. هذه البلاد وطننا. هذه البلاد قلب العالم. وفي هذا القلب ظهر الأنبياء ونشأت الأديان. ومن هذا القلب أشرقت على أوروبا في الأجيال الوسطى شمس العلم والفلسفة والأدب، فأنارت ظلمات الأوروبيين».
وفي نص آخر، يقول: «أنا عربي شرقي... عربي اللسان، شرقي الروح، ثوروي المبدأ. عربي لا يكره الترك، وشرقي لا يزدري الغرب، وثوروي تهمّه الكعبة مثلاً أكثر مما يهمه الدستور... سلاحنا من الله لا من معامل أوروبا... سلاحنا كلمة نقولها، رأي نبديه، بذرة نزرعها في قلوب الناس. أنا عربي جنسيتي على لساني وفي وجهي وعلى أضلعي... أنا عربي، أحلم بمجد العرب». لكن تلك المقالة لم تشِرْ إلى موضوع الاستقلال.
في أيلول/ سبتمبر عام 1912، تحدث بشكل مباشر عن الاستقلال، مشيراً إلى أن من حق كل أمة من أمم الأرض أن تنال استقلالها السياسي، وأنه لا حياة للأمم بسواه، ولا ارتقاء يدوم إن لم يشيّد على أركانه.
في عام 1914م، طالب السوريين بمحاربة السلطنة العثمانية، والعمل على تحقيق الاستقلال. وعندما أعدم جمال باشا زعماء النهضة العربية، وعلقهم على المشانق، عام 1917م، كتب الريحاني مقالة تحت عنوان، الصليب أو يوم في بيروت رثى فيه شهداء الأمة العربية من سوريا ولبنان، لقد استحال نور النهار في العيون إلى ظلام. وامتزج الدم بالأرض. وقال بالحرف الواحد: «أمتي خالدة لا تموت».
في مقالته التطور والاستقلال، والتي تحمل عنوان القوميات نلاحظ ارتباكاً في مفهومه للقومية، يقترب من رؤية الحزب القومي السوري الاجتماعي ل«الأمة السورية». مع أنه لا يُخفي ارتباطه بالعروبة من باب اللغة. يتداخل في موقفه الوطني بالقومي، بشكل مرتبط. فالوحدة القومية، ترد كثيراً بمعنى وحدة سورية ولبنان، وليست وحدة العرب. إنه يؤكد على انتمائه لسوريا وطنياً، وماروني دينياً، واحترامه للغة العربية، وافتخاره بصدر الإسلام ومجد بني أمية.
لكن فكره، تطوَّر باتجاه الالتزام بالقومية العربية، مع تغير الأوضاع السياسية بالمنطقة العربية. فكتب عام 1927 مقالة بعنوان «إني متحزب» نشرت في جريدة الجامعة العربية التي صدرت في القدس، مؤكداً على أنه «أحد العاملين في سبيل العرب، والنهضة العربية، وكل من يسعى لجمع كلمتنا وتوحيد أعمالنا ومقاصدنا الكبرى. إني متحزب للتهذيب القومي، الذي يرفع الوطن فوق الطائفة، وفوق الأسرة والعشيرة».
في كتابه عن الشريف حسين، يختزل فكرة الدولة العربية الموحدة، على المشرق العربي كما هو مشروع الثورة العربية الكبرى، لكنه في عام 1931، يكتب في مقالة تحت عنوان «طرابلس الغرب»،
عن الثورة الليبية واستشهاد عمر المختار، مشيداً بالبطولات العربية، ومعبّراً عن غضبه من ممارسات الاستعمار الإيطالي، مؤكداً تأييده ومساندته لشعب عربي شقيق.
هنا نلاحظ التزاماً واضحاً بالقضية القومية، لكن إيمانه بقضية الوحدة لم يبرز بوضوح في كتابات الريحاني، إلا عام 1934م، تحت عنوان «الوحدة العربية». حيث أشار إلى أن الوحدة العربية متحققة،
إن لم يكن اليوم فغداً، أو بعد سنة أو بعد خمسين سنة. نعم هي محققة، لأنها مظهر من مظاهر التجدد والرقي، ودرجة من درجات التطور القومي في كل مكان.
«إن التضامن الذي هو شرط تحقق الوحدة، لا يقوم بغير الشعور القومي، والتربية القومية، فتصبح الوطنية الإقليمية ذات قلب عربي نابض، وصوت عربي صادق، وروح عربية شاملة. إن الشعور بالانتماء للأمة ينبغي أن ينتشر في العامة قبل الخاصة، وفي المحكومين قبل الحاكمين، فيضطر الحكام آنذاك أن يستجيبوا لنداء الشعب. ولن يتعزز الشعور القومي لدى عامة الناس، إلا بالتعليم الوطني والتربية القومية العربية في كل قطر من الأقطار العربية».
في مقالة نشرها عام 1936 تحت عنوان «لبنان والنهضة العربية»، يناشد الريحاني اللبنانيين بأن يتبنوا ويدافعوا عن مشروع النهضة العربية. إن العرب أمة واحدة، والتجزئة التي تعاني منها، إنما هي من صنع السياسة الاستعمارية. لكنها لن تستمر إلى الأبد، وسيعود العرب إلى وحدتهم، كما كانوا في سابق عهدهم.
0 تعليق