قلق في كل مكان، كما في واشنطن، القلق مستبد ومركز على حياة الشخص العائد إلى عاصمة البلاد رئيسا لها، بخاصة منذ أن تعرضت حياته للتهديد مرتين خلال الحملة الانتخابية، ولكن أيضاً قبل أيام قليلة من استلامه مقاليد السلطة عندما شمّر العنف الأمريكي ذائع الصيت عن ساعديه وراح يجرب قوته وفاعليته في كل من نيو أورلينز ولاس فيغاس على التوالي. نسمع الآن ونقرأ ما يؤكد حجم هذا القلق، وأقصد الاستعدادات الأمنية الواسعة والمكثفة التي تجريها القوى الأمنية بهدف تعزيز إجراءات حماية دونالد ترامب بينما ينشغل هو والأقربون بمراسم تتويجه رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية. قرأنا عن إضافة أربعة آلاف ضابط أمن إلى القوة المخصصة للعاصمة وجلب حوالي سبعة آلاف وثمانمئة عنصر من جنود الحرس الوطني وسلاح الطيران مزودين بمسيرات ومدرعات كافية.
هذا عن بعض استعدادات الداخل، أما الخارج، وأقصد العالم الذي عاش معظم أيام العام المنقضي في ظلال الحملة التي جرت لانتخاب رئيس جديد للبلاد، وبالذات منذ أن أعلن ترامب نيته الترشح للمنصب، فاستعداداته اختلفت في المضمون وفي النتائج عن مضمون ونتائج استعدادات الداخل. المهم أن استعدادات الخارج عبرت بشكل أو آخر عن قلق مماثل لقلق الداخل سواء كان القلق نابعاً عن خوف ورهبة أو عن بهجة وفرحة.
المتابع لتطورات الأزمة الأوكرانية يلاحظ أن روسيا حققت وتحقق منذ الشهور الأخيرة في الحملة الانتخابية وبعدها مباشرة مكاسب واسعة في مساحات الأراضي المستعادة من قوات أوكرانيا رغم تحملها خسائر وفيرة تسببت فيها صواريخ أمريكية الصنع حديثة الوصول إلى ساحة القتال، ومع ذلك صارت روسيا متأكدة من أن الحلف الأطلسي غير واثق بوحدة صفوفه إزاء المسألة الأوكرانية. يلاحظ أيضاً أن كوريا الشمالية تدخلت في الحرب بأعداد وفيرة من الجنود.
مجمل القول إن روسيا لم تعد خاسرة، وإن أوكرانيا لم تنهزم لكنها لم تحصل من قمة الناتو الخامسة والسبعين على قرار بالضم ولا حتى على خريطة طريق نحو هذا الانضمام. أوروبا الآن في حالة توقع ضرورة أن يخف الضغط الأمريكي عليها الذي كان مفروضاً لصالح أوكرانيا. الخلاصة أن ترامب يأتي إلى البيت الأبيض والأزمة الأوكرانية أقرب إلى تسوية أكثر من أي وقت مضى. أليس هذا ما تنبأ به حين وعد بإنهاء هذه الحرب فور توليه السلطة؟
الجديد والجدير بالذكر والاهتمام قرار كوريا الشمالية الاشتراك في الحرب الأوكرانية بعديد الجنود لما له من أبعاد استراتيجية في مجالات أخرى. إذ انتبهت اليابان إلى حقيقة أنها بسبب هذا القرار الكوري ستكون مضطرة إلى إعادة النظر في بعض جوانب مشروع الحلف الإندو باسيفيك بخاصة إمكاناتها التي خصصتها لهذا الحلف ولعلاقاتها مع الهند.
لا شك عندي في جدوى وأهمية الإشارة الواضحة والصريحة إلى أن إسرائيل قامت بجهد وافر لإعداد الشرق الأوسط لاستقبال الرئيس الأمريكي الجديد استقبالاً يستحقه حسب تقديرها بكل يمينها وبكل يسارها. إنه الاستعداد الذي بفضله يمكن للرئيس الجديد في أقل وقت وبأقل تكلفة البناء فوق الجهد الإسرائيلي لوضع الخطوط الرئيسية في خريطة جديدة للشرق الأوسط.
كان الأمل لدى الشريك الإسرائيلي أن توافق إدارة الرئيس جو بايدن على أن تمتد الاستعدادات لتشمل إيران، وكان ترامب نفسه قد اتخذ قراره باغتيال قاسم سليماني قبل رحيله عن البيت الأبيض واعتبرته إسرائيل نموذجاً موحياً استخدمته في مهمة إعداد الساحة الإيرانية والشرق أوسطية بشكل عام لمرحلة أخرى في مراحل تطور الإمبراطورية الأمريكية، وهي مرحلة التكامل الأمريكي الصهيوني بأبعاد استراتيجية جديدة.
أفلحت إسرائيل ولا شك في أداء دورها بدليل ما صحت تسميته بحرب الاغتيالات العظمى وحروب الطرف الواحد وأقصد حربها ضد سوريا جديدة وضد لبنان قديمة -جديدة وحروبها المستترة ضد دول شتى. كلها وغيرها من أدوات وأساليب حرب ناشبة في الشرق الأوسط ولم تصل إلى نهايتها حتى ساعة كتابة هذه السطور هدفها المنظور قصقصة أجنحة النظام الإيراني بمساعدة أمريكية غير خافية وبمساعدات شرق أوسطية وأوروبية، وهدفها المؤجل قليلاً تتويج الرئيس ترامب إمبراطوراً فعلياً على عالم تزداد مكوناته ضعفاً كما هو باد في أوروبا وتزداد جموداً كما هو واضح وصريح في أمريكا اللاتينية وإفريقيا وكما هو العنف المبهر في قسوته ووحشيته في الشرق الأوسط، وكما هو العاصفة التي تسبق إعلان نشوب حرب باردة جديدة ساحاتها شرق آسيا وجنوبها والقارة الأسترالية.
إنه العالم الجاهز في انتظار تصديق الإمبراطور بتوقيعه الشهير على ما تم إنجازه وليستكمل بنفسه في الشرقين الأقصى والأوسط عمليات لم تكتمل بإذنه في وقتها وينصّب نفسه صانعاً لنظام دولي جديد وفي قلب هذا النظام الدولي نظام إقليمي شرق أوسطي أيضاً جديد.
0 تعليق