د. صلاح الغول*
منذ سقوط نظام بشّار الأسد في 8 ديسمبر (كانون الأول) المنصرم، ثارت التساؤلات ودبجت التخرصات بشأن طبيعة الدولة وشكل نظام الحكم في سوريا الجديدة، كما يحلو للأشقاء السوريين أن يطلقوا عليها، متأثرين بالخلفية التنظيمية لهيئة تحرير الشام وقائدها أحمد الشرع، والتوجهات السلفية الجهادية التي طبعت أفكارها وأفكار الفصائل المسلحة المتحالفة معها في فترة الكفاح المسلح ضد النظام السوري السابق. ذهبت طائفة من المراقبين إلى أن طبيعة الدولة في سوريا الجديدة سوف تكون دينية، على النمط الطالباني في أفغانستان، وأنّ الشرع وإخوانه يتجهون إلى تأسيس نظام حكم ثيوقراطي متشدد، غير متسامح مع الآخر، لا سيما الأقليات الدينية، وغير مبالٍ بحقوق المرأة والحقوق والحريات المدنية عامةً، وغير منفتح على الخارج.
ويتباين أصحاب هذا الرأي فيما إذا كان مثل هذا النظام سوف يشكل تهديداً أمنياً لدول محيطه الإقليمي. فمنهم من يجزم بأنّ النظام السوري قيد التشكل سوف يذكي نيران الطائفية في بلاد الشام والمنطقة العربية، وسوف يجعل سوريا بؤرة لجذب حركات التطرف والعنف ذات التوجه الإسلامي الراديكالي من كل أنحاء الإقليم. ومنهم من يرى أنّ نظام هيئة تحرير الشام الجديد سوف يماثل النظام الذي أسسوه سابقاً في إدلب، بمعنى أنه سوف يتوجه إلى الداخل السوري فقط لتأسيس سيطرته، ومن ثم فرض حكم مطلق على البلاد، من دون أن ينشغل بالخارج أو بتهديد الآخرين.
وهناك طائفة أخرى من المحللين يرون أنّ رسائل التطمين التي تبثها الإدارة الجديدة في سوريا، والشكل الجديد الذي يتخذه قادتها، ونمط سلوكهم السياسي وطبيعة تفاعلاتهم «الإيجابية» مع مختلف مكونات الشعب السوري، والخطوات التي أعلنت الإدارة عن اتخاذها (عقد مؤتمر وطني للحوار ووضع دستور جديد وتنظيم انتخابات تشريعية ورئاسية)... كل هذا يدعو للتفاؤل بأنّ سوريا الجديدة سوف تكون دولة شاملة لكل السوريين، وأنّ نظام الحكم الجديد قيد التشكل فيها سوف يكون مدنياً وتعددياً، يحترم الحقوق المدنية وحقوق الأقليات، ويحفظ للمرأة حقوقها، وينفتح على الداخل والخارج.
وقد ذهب بعض أنصار هذا الرأي إلى أبعد مدى من التفاؤل بالإشارة إلى أنّ أحمد الشرع ربما يتقمص دور «قاسم» في رواية أديب نوبل، نجيب محفوظ، «أولاد حارتنا». فقد قاد قاسم كفاحاً مسلحاً ضد فتوات وبلطجية حارته، وكتب له النصر في نهاية المطاف، وأسس نظاماً شاملاً لا غالب فيه ولا مغلوب، متسامحاً مع الخصوم السابقين، مبنياً على العدالة والإنصاف في توزيع القيم المادية والمعنوية بين أبناء حارته.
وبين وجهتي النظر السابقتين تبرز وجهة نظر ثالثة، يميل كاتب هذه السطور إلى إمعان التفكير فيها. وتتلخص وجهة النظر هذه في أنّ سوريا الجديدة سوف تكون دولة طبيعية، وسوف يتم تأسيس نظام حكم يتجه إلى دائرته أو حاضنته العربية، يشبه في سمته العام نظام الحكم الذي أسسه الأمويون من قبل في دمشق، ويلتقي في المظاهر الإسلامية التي سوف يعلي من شأنها مع نظم الحكم في دول مجلس التعاون الخليجي والمملكة المغربية.
ويقصد بالدولة الطبيعية أنّ سوريا ما بعد الأسد لن تكون دولةً دينية، على النمط الطالباني أو غيره، ولن تكون دولة طائفية كما كانت في الردح الأخير من عهد بشّار الأسد، ولن تكون علمانية ممعنة في العلمانية المتطرفة، وإنما سوف تكون دولة طبيعية مثل سائر الأقطار العربية من حولها، متصالحة مع نفسها ومع جيرانها، تبتغي التركيز على التنمية الاقتصادية ورفاهية مواطنيها، وتنشد الانخراط في علاقات اعتماد متبادل مكثف مع سائر دول العالم في المجالات الوظيفية المختلفة.
وكما أبانت التفاعلات العربية مع الإدارة السورية الجديدة، واستقبال وفودٍ عربية في دمشق من السعودية ومجلس التعاون الخليجي وقطر، وجولة وزير الخارجية السوري في الحكومة المؤقتة، أسعد الشيباني، مع وزير الدفاع، مرهف أبو قصرة، في دول الخليج (السعودية وقطر والإمارات) والأردن، ودعوة رئيس الحكومة اللبنانية، نجيب ميقاتي، لزيارة قصر الشعب السوري... كل ذلك يشير إلى التوجه العربي للإدارة الجديدة في سوريا. ولنتذكر في هذا الخصوص أن السعودية من أكبر الداعمين اقتصادياً للحكومة الانتقالية السورية. وربما يهدف القائمون الجدد على الحُكم في سوريا إلى وصل ما انقطع من الروابط التاريخية والسياسية والثقافية المتينة بين بلاد الشام وحاضنتها العربية.
أما عن نمط نظام الحكم الذي يعكف الشرع ورفاقه على تأسيسه في سوريا، فيرجح ألا يكون نظاماً ثيوقراطياً أو إيديولوجياً منغلقاً، وأن يتجهوا إلى تشكيل نظام حكم لن يختلف كثيراً عن نظم الحكم في العالم العربي من زاوية الجمع بين الأصالة والحداثة أو المعاصرة، لاسيما رعاية الشؤون الدينية، ووضع رئيس الدولة المهيمن على شؤون الحكم والسياسة. ومن الصحيح أن هيئة تحرير الشام سوف يكون لها نصيب الأسد في توزيع السلطة في هذا النظام، إلا أنها سوف تترك المجال السياسي لتعددية سياسية منضبطة. ولكن اللحظة التركية في الشرق الأوسط، وتنامي النفوذ التركي على الإدارة السورية الجديدة، سوف يعنيان أنّ الشرع ورجاله سوف يقتبسون كثيراً من النموذج التركي عند وضع دستور سوريا الجديدة وتنظيم علاقاتها الخارجية.
0 تعليق