العرب والغرب والشرط المعرفي - ستاد العرب

0 تعليق 0 ارسل طباعة تبليغ حذف

لا نضيف جديداً حين نقول إنّ العرب والغرب كوّنوا عن بعضهم البعض معارفَ وصوراً عدّة ومتفاوتةَ القيمة منذ ابتداء الاحتكاك بينهما والصِّلاتِ في خواتيم القرن الثّامن عشر (لئلاّ نذهب إلى صلاتٍ أبعد في الزّمان). من المسلَّم به أنّ فترة قرنين وربع - التي تفصلنا عن غزوة بونابارت لمصر- تكفي لكي يتكوّن من تلك المعرفة المتبادَلة رصيد، وهو، من غير شكٍّ، رصيدٌ متفاوتٌ في درجة «المطابَقَة» أو الدّقّة. بيان ذلك أنّ المعرفة التي تنشأ في بيئة الغزو والحرب والتّعادي (العداء المتبادَل) والمواجهة غيرُ المعرفة التي تتكوّن في مناخاتٍ من السِّلم والتّعاون والتّقارُب، والمعرفةَ التي تُبْنَى من أجل التّفاهم والتّبادل الماديّ والرّمزيّ غيرُ تلك التي تغترض التّشهير والتّحريض ودقّ الأسافين.
إذا كان هذان الضّربان من المعرفة قد تكوّنا لدى الفريقين معاً، وأفصحا عن نفسيهما في مناسبات متعدِّدة: بصورةٍ متعاقبة، في الأغلب، ولكن متزامنة في أحيان أخرى، فإنّ مردّ ذلك إلى أنّ شروط تكوُّن تلك المعرفة، عند هذا الطّرف وذاك، لم تكن متشابهة دائماً، فبقدر ما كان يعتورها تَكدُّرٌ واحتقان، في ظرفيّات بعينها، فيحملها (أعني المعرفة) على رؤية الأسوأ في الآخَر، كان يأتي عليها حينٌ من الزّمن لا ترى فيه في ذلك الآخَر إلاّ المضيءَ والنّافع، لأنّها نظرت إليه في لحظةٍ تحرّرت فيها من أيّ ضغط أو، قل، من أيّ قيْدٍ يمنعها من إحسان التّقدير.
معرفةُ الشّيء، إذن، مقرونةٌ بظروفها أو- للدّقّة - ب شروط التّلقّي. إذا تجاهلنا هذه الحقيقة لحظةً فلن نفهم، على التّحقيق، لماذا يتقلّب مجتمعٌ مّا أو ثقافةٌ مّا بين نظرتيْن إلى الشّيء عينِه في زمنٍ يسير. ولقد تعني شروطُ التّلقّي الظّروفَ العامّة التي تقع فيها معرفةُ مجتمعٍ بآخَر: ظروف نزاع أو حرب أو غزوٍ أو تبادُلٍ تجاريّ أو رغبةٍ في الاكتشاف...، وقد تعني الحالَ الوجدانيّة أو النّفسيّة التي يكون عليها كلٌّ منهما لحظةَ معرفة الآخَر، والتي هي - في الغالب - ترجمةٌ للموقع الذي يكون فيه آنَها.
إنّ موقع المنتصر والغالب غيرُ موقع المهزوم والمغلوب حين يرى كل منهما آخَرَه، إذِ الأحوالُ النّفسيّة مختلفة تماماً، وفي مثل هذه الأحوال قلّما يكون ممكناً - حتّى لا نقول من المستحيل - تكوينُ صورة عن الآخَر قريبة منه أو، على الأقلّ غير مصطَنَعة عنه أو غير مزيَّفَة أو مبالَغٍ فيها. والأمرُ يكون كذلك في الحاليْن معاً: في حال المنتصر وفي حال المنهزم. لا يمنع المنتصر نفسَه - وهو في حالِ انتشاءٍ وزهوٍ بتفوّقه - من البحث، باستعلاءٍ، عن مَواطن ضَعف المغلوب وقصورِه لِ «يجدَها»، أخيراً، في مواريثه: عِرقهِ، ودينهِ، وثقافته...إلخ! في المقابل، لا يملك المهزوم إلاّ أن يرى في الآخَر المتغلِّب مصدراً للشّرّ والعدوان وغطرسة القوّة والأحقاد الدّينيّة...إلخ.
لسنا نضيف جديداً حين نقول إنّ أكثر شروط تبادُل الإدراك بين العرب والغرب ما كان ينتمي إلى ما يمكن تسميّتُه الشّروط الجاذبة، أي تلك التي ينجذب فيها طرفا العلاقة (العرب، الغرب) إلى بعضهما فينساغ بذاك الانجذابِ فهمٌ وتفاهُم وحوارٌ وسعيٌ إلى بناء القواسم والمشتَرَكات، بل الغالبُ عليه أن يُحْسَب في جملة الشّروط النّابذة أو الطّاردة: تلك التي تُوفِّر أسباب قطْع الأواصر بين الدّاخلين في علاقةٍ بيْنيّة غيرِ متكافئة مثل علاقة العرب بالغرب. ومع أنّ أوضاع العلاقة تلك، منذ زوال الحقبة الكولونياليّة وحيازة البلاد العربيّة استقلالها، ثمّ منذ أنِ استقرّ التّرحال بملايين من مهاجرينا العرب في ديار الغرب، فتوطّنوا وباتوا في عداد مواطنيها، أَوحتْ، وظلّت توحي، بأنّ أمرَها استتبّ وتَعَزَّر بالعهود والاتّفاقات وسوابق التّعاون.
ربّما عادتِ المسؤوليّة عن تدهور صورة العلاقة البينيّة إلى العالَميْن معاً وإلى خوف كلٍّ منهما وتنامي هواجسه من الآخَر: الهواجس التي لا تَني الذّاكرةُ تغذّيها، من هذا الجانب ومن ذاك، باستدعائها المستمرّ سوابقَ الصّدام. لا يمكن العربَ نسيانُ ما أصابهم من ذلك الغرب: من غزوٍ استعماريّ، ونهبٍ للثّروات، وهيمنةٍ وتَسلُّط وحروبٍ ظالمة، وعنصريّة بغيضة، واهتضامٍ سافرٍ للحقوق... إلخ، ولا هو يمكن الغربَ نسيانُ أنّ العرب يَدينون - في المعظم - بالإسلام، وأنّهم - ومن دون أمم الأرض جميعاً - يقاومون الغرب وسياساته ويحملون في وجهه السّلاح فيُمانِعون هيمنته، ولا أنّ جماعات مسلَّحةً منهم تنقُل معاركها إلى داخل بلدانه فتفجّر وتدمّر وتسفك دماء المدنيّين، ولا أنّ مهاجريهم يُحدِثون، في داخل أقطار الغرب، منظومات قيمٍ تتهدَّد بها منظوماتُه... إلخ.
هذه حوادث تكفي لتمديد حال البينونة النّفسيّة لدى العالَميْن. مع ذلك، لا تتكافأ الكفّتان في مقادير المسؤوليّة، إذِ الضّحيّةُ المغلوبُ واجدٌ نفسَه، حُكْماً، في موقع المدافع عن نفسه ووجوده من غالبٍ لا تكفيه هزيمةُ خصمه، بل يبتغي إخضاعَه الكامل لإرادته. والغربُ، بما هو غالِب أو متغلِّب، يحتاج - من أجل تصحيح علاقاته بغيره - إلى أن يتقشّف كثيراً في طلبٍ بعيدِ الأهداف من خصومه، لأنّ حِفْظ الحدّ الأدنى من الكرامة لهم، وتطبيق الحدّ الأدنى من العدل على حقوقهم، يكفي لأن يَكُفَّ عنه ردود أفعالهم عليه.

[email protected]

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق