عشنا أياماً في خضم تجربة جربتها إسرائيل مع العرب مراراً. تأتي التجربة تحت عنوان من ثلاث كلمات هي «استراتيجية هجومية شاملة»، استراتيجية تسمح بتعبئة كل إمكانات «الأمة»، متعمداً هنا عن قصد أكيد استخدام كلمة «الأمة»، باعتبار أنها في المعنى والحيز أوسع مساحة وأعمق تاريخاً وأوفر إمكانات من كلمة الدولة، وباعتبار أننا نراعي في فهمنا لهذه الدولة حقيقة أن التعامل المجدي لفهم حقيقة القوة الإسرائيلية يكون بحساب إسرائيل أمة واسعة الانتشار، فهي موجودة في كل ركن من أركان العالم منذ مطلع التاريخ، وهي عظيمة الإمكانات إلى حد لا يقارن بإمكانات دولة عادية كما تحب أن تبدو أحياناً، محدودة المساحة قليلة السكان، بينما هي في الحقيقة أمة مغروسة أو غرست نفسها كرهاً أو وداً أو واقعاً في كل دين سماوي آخر وغير سماوي، ولم تتوان عبر القرون عن التدخل مرات عديدة بالتحسين أو الإساءة لتغيير نصوص أو أساطير أو وعود في هذا الدين أو تلك العقيدة.
رأينا بعيوننا وقلوبنا كيف أعدت حكومة إسرائيل، باسم أمتها الممتدة، استراتيجية هجومية شاملة. عبأت كل إمكانات الأمة في الداخل والخارج. عبأت معظم أساتذة الجامعات في كل الدول العظمى شرقاً وغرباً، اليهود منهم وغير اليهود. وبالفعل استطاعت تقييد فرص نجاح الثورة الطلابية لصالح شعب غزة في مختلف جامعات الغرب بخاصة. نعرف أنه يجري حالياً رغم التوقف المؤقت للقتال في لبنان وغزة فصل أساتذة جامعات قصروا في أداء واجبهم تجاه الهيمنة الصهيونية على الحياة السياسية داخل الجامعات.
لا شك أن إسرائيل، بحسن وكفاءة قيادتها لأمتها اليهودية، عادت فأكدت خلال الشهور القليلة ما كان دائماً في نيتها وترسانتها من خطط وأفكار سياسية وعسكرية واقتصادية. الأمثلة عديدة ونعيش تردداتها العنيفة في يومنا هذا. كانت لا تزال دولة على طريق النشأة تقودها وتضع خططها ميليشيات إرهابية، حسب التوصيف البريطاني لها في ذلك الحين، وبقي الوصف أساساً لاستراتيجية هجومية شاملة تلتزمها أمة اليهود في كل مكان، وخلفت خططاً وسياسات مشهودة:
*أولها: التمسك بمبدأ التوسع باعتباره أقصر الطرق للدفاع.
*ثانيها: الاستمرار في حفظ وتقديس خرائط التراث الديني والأساطير اليهودية كمستودع لا غنى عنه لتأكيد الشرعية لحكام إسرائيل ومختلف تياراتها السياسية. هذه الخرائط ليست فقط لتأكيد الشرعية، ولكن أيضاً لتعبئة جنود بني إسرائيل ولتنشئة أجيال نشأة عسكرية وسياسية وعلى أسس صهيونية.
*ثالثها: التحالف المقام مع القوة الدولية الأقوى في حينها، إمبراطورية كانت أم جماعة بالغة الثراء والنفوذ. لذلك يصعب علينا الفصل «الهزلي أحياناً أو غالباً» بين أمريكا الوسيط لوقف إطلاق النار بين إسرائيل والفلسطينيين، وأمريكا الدولة الأعظم حامية الحقوق الإنسانية ورائدة الديمقراطية وحامية النظام الدولي والراهن والمهيمنة على أكثر تفاصيله، وأمريكا التي تزود جيش إسرائيل بالقنابل ثقيلة الوزن والفتك بالجملة بالفلسطينيين واللبنانيين واليمنيين في الحرب الصهيونية التي تشنها إسرائيل ضمن هذه الاستراتيجية الهجومية الشاملة. فهمنا بطبيعة الحال أن هذه الحرب المتكررة والوحشية تبعث برسالة تذكير وتنبيه للدول العربية وغير العربية في الشرق الأوسط.
*رابعها: إلى جانب الحماية الأمريكية المضمونة دائماً أو على الأقل حتى الآن، قامت إسرائيل الدولة ودول غربية أخرى بتدريب فرق يهودية على أعمال الاستخبارات الخفية مثل التفنن في اغتيال مسؤولين كبار وقادة عسكريين أجانب وعلماء طبيعة بخاصة علماء الذرة في كافة أنحاء الشرق الأوسط. كادت هذه الفرق بفضل استخدام الغرب لها بين الحين والآخر وحمايته لها تحتل مكانة بارزة ومؤثرة في ميزان الاستراتيجية الكلية لإسرائيل.
*خامسها: الاطمئنان لعدم المساس بها من جانب الأمم المتحدة ومؤسساتها اعتماداً على حق الفيتو للدول الغربية في مجلس الأمن بخاصة الولايات المتحدة ونفوذها في مؤسسات التنظيم الدولي بشكل عام. بمعنى آخر تقوم الاستراتيجية الهجومية الإسرائيلية على قاعدة إهمال مبادئ القانون الدولي وحقوق الإنسان ما يضيف إلى قواتها المسلحة قوة على قوة.
في ما يلي أعرض بإيجاز لأهم ما يجب أن نخرج به من ملاحظات واستنتاجات حول حروب إسرائيل الثلاث ضد غزة ولبنان وسوريا وما آلت إليه قرب توقفها..
*أولاً: نعرف أن كل دولة متقدمة وضعت لنفسها استراتيجية دفاع معلنة وملزمة ومتطورة مع حال الحرب والسلم في الإقليم الذي تعيش فيه وفي الحيز الحيوي من أمن البلاد. نلاحظ أن لا دولة واحدة في العالم العربي كبيرة أو صغيرة تبنت استراتيجية دفاعية أو هجومية شاملة أعلنت عنها والتزمت الوفاء بها أمام شعبها أو أمتها.
*ثانياً: لم يعد سراً خفياً أو معلناً أن لدول كبرى ميليشيات لها دور محدد في استراتيجيتها غير المعلنة هجومية كانت أم دفاعية. أغلب هذه الميليشيات كما عهدناها لا تحمل اسم الدولة الراعية.
ثالثاً: أحداث الأيام الأخيرة وصداها في العالم العربي وموقف الغالبية العظمى من شعب إسرائيل وغالبية أعضاء الكنيست وجميع أحزاب إسرائيل خلال الأيام العصيبة الماضية تؤكد أن التطبيع لم يعالج أو حتى يمس بالرضا أو بالاعتدال أساساً واحداً من أسس الصراع مع إسرائيل.
إسرائيل تبقى وستبقى مشكلة العرب الأولى. لا يوجد حتى يومنا هذا دليل واحد يثبت لنا في عالمنا العربي أو في عالم الشرق الأوسط أن إسرائيل استبدلت، أو استعدت لاستبدال استراتيجيتها الهجومية المباشرة باستراتيجية سلام عادل.
0 تعليق