د. إدريس لكريني
بعد أكثر من عام ونصف العام على انطلاق حرب غزة، تمكن الطرفان (الكيان الإسرائيلي وحركة حماس) وبوساطة كل من مصر وقطر والولايات المتحدة الأمريكية، من إعلان التوصل إلى اتفاق، يقضي بوقف إطلاق النار، والإفراج عن الرهائن الإسرائيليين والأسرى الفلسطينيين من قبل الجانبين، وهو ما خلّف أجواء من التفاؤل الحذر، حيث عبّرت الكثير من دول العالم عن رغبتها في أن يسمح ذلك ببلورة حلول مستدامة، لوقف متاهات الصراع الذي كبّد الفلسطينيين والمنطقة الكثير من الخسائر البشرية والاقتصادية والسياسية..
لم تخل الجهود المبذولة في إطار السعي إلى وقف إطلاق النار من صعوبات كبيرة، بالنظر إلى الخلافات التي ظلت قائمة بشأن احترام أي اتفاق في هذا السياق، وكذا بصدد حدود انسحاب قوات الاحتلال من الأراضي الفلسطينية، إضافة إلى حجم المساعدات التي يمكن أن تستقبلها الأراضي الفلسطينية.
يتوزع الاتفاق إلى ثلاث مراحل متدرجة، تتمحور حول وقف العمليات العسكرية المتبادلة بصورة مؤقتة، وانسحاب قوات الاحتلال من المناطق الآهلة بالسكان، وتعليق الأنشطة الجوية العسكرية بشكل مؤقت، مع خفض القوات العسكرية للاحتلال تدريجياً داخل القطاع، مع إفراج إسرائيل في مرحلة أولى عن نحو ألفي أسير، ثم السماح للنازحين بالعودة إلى مناطقهم، وفتح معبر رفح، ثم استقبال قدر كاف من المساعدات الإنسانية، مع السماح لمنظمة الأمم المتحدة ووكالاتها المتخصصة، بتقديم مختلف الخدمات الإنسانية داخل القطاع.
كما تضمن الاتفاق جدولاً لتبادل الأسرى والمحتجزين من لدن الطرفين، قبل البدء في إعادة تأهيل البنى التحتية في مختلف مناطق القطاع، وإدخال التجهيزات الخاصة بإحداث مراكز لإيواء النازحين الذين فقدوا منازلهم خلال الحرب. وهي المرحلة التي يليها الإعلان عن الوقف الدائم للعمليات العسكرية، واستئناف تبادل المحتجزين والأسرى بين الجانبين، وانسحاب قوات الاحتلال الإسرائيلي بصورة كاملة من قطاع غزة. أما المرحلة الأخيرة فتتركز حول تبادل جثامين ورفات الموتى بين الطرفين، والانكباب على تنفيذ خطة إعادة إعمار قطاع غزة، وتعويض المتضررين، وفتح جميع المعابر، وضمان حرية الحركة بالنسبة للأشخاص والسلع.
رغم الترحيب الدولي الواسع بالاتفاق، فقد خلّف هذا الأخير مواقف متضاربة داخل إسرائيل، بين من اعتبر في الأمر فرصة لاسترجاع المحتجزين، ووقف نزيف الحرب الذي كلّف إسرائيل إمكانات بشرية ومالية وعسكرية ضخمة، بل وزاد من ورطتها أمام الرأي العام الدولي الذي أصبح أكثر وعياً بحجم الجرائم المرتكبة داخل الأراضي المحتلة، وبين من اعتبر الخطوة متأخرة، كونها تعبيراً عن عدم قدرة إسرائيل على تحقيق أهداف عملياتها بعد أكثر من عام ونصف العام، رغم تأكيد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، عدم القبول بأي دور لحركة حماس بعد نهاية هذه العمليات.
وفي الوقت الذي رحب فيه الرئيس الأمريكي السابق جو بايدن بالاتفاق، باعتباره يأتي في سياق إطار عمله الذي سبق وأن طرحه، أكد الرئيس دونالد ترامب أن مجيئه إلى البيت الأبيض هو الذي سرّع بعقد هذا الاتفاق، علماً بأنه سبق وأن توعّد بتحويل المنطقة إلى ما يشبه الجحيم في حال عدم الإفراج عن الرهائن قبل تنصيبه رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية.
لا شك في أن وقف إطلاق النار يظلّ خطوة مهمة في الوقت الراهن، على طريق تخفيف المعاناة والآلام التي يلاقيها الشعب الفلسطيني بفعل الجرائم اليومية التي يمارسها الاحتلال الإسرائيلي. ومع ذلك، فثمة الكثير من الأسئلة والشكوك التي تظل قائمة بالنظر إلى حجم الدمار والويلات التي خلفتها الجرائم الإسرائيلية المرتكبة داخل القطاع، وتعوّد سلطات الاحتلال «تاريخياً» على التنكر لاتفاقاتها.
رغم قساوته وانعكاساته الإنسانية، أعاد العدوان الإسرائيلي على غزة، القضية الفلسطينية إلى واجهة النقاشات الدولية، ورسخ قناعة إقليمية ودولية بأن إرساء سلام عادل ومستدام في منطقة الشرق الأوسط بصورة تنهي مظاهر الاحتلال الإسرائيلي، كما أكدته محكمة العدل الدولية بصورة واضحة لا لبس فيها، وتقطع مع المتاجرين بالقضية الفلسطينية داخل إسرائيل أو في مناطق أخرى، ويوقف متاهات الحروب والصراعات التي لا تنتهي، يمرّ أساساً عبر الاعتراف بالحقوق الفلسطينية المشروعة، في بناء دولة مستقلة، انسجاماً مع قواعد القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة ذات الصلة.
إن عقد الاتفاق لا يمكنه أن يغطي مطلقاً على فظاعة الجرائم المرتكبة في الأراضي الفلسطينية المحتلة، فقد تم استهداف عدد كبير من المدنيين، وتشير التقارير إلى مقتل أكثر من46707 فلسطينيين غالبيتهم من الأطفال والنساء جراء هذه العمليات، فيما تم تدمير الكثير من المنازل والبنى التحتية داخل القطاع من مستشفيات ومدارس ومراكز إيواء النازحين، وهو ما يفرض محاكمة الضالعين في جرائم الإبادة والتهجير، والقتل الجماعي المرتكبة داخل القطاع، بما يرسخ عدم الإفلات من العقاب، انسجاماً مع قواعد القانون الدولي الإنساني.
[email protected]
0 تعليق