تتواتر نذر النار في الضفة الغربية، كأنها استئناف للحرب على غزة، وتصعيد بالوقت نفسه لمستوى المواجهات الوجودية، أن تكون أو ألا تكون القضية الفلسطينية.
لم تكن مصادفة أن تكون جنين ومخيمها بالذات أول مواجهات النار. تمثل جنين عقدة مستحكمة أمام آلة الحرب الإسرائيلية، التي لم تتمكن من إخضاعها رغم الحملات والمداهمات المتصلة بكافة أنواع الأسلحة والجرافات والطائرات.
«جنين هي النموذج والبداية». كان ذلك تصريحاً لافتاً لوزير الدفاع الإسرائيلي «يسرائيل كاتس»، الذي يفتقر إلى أية خبرة عسكرية، لكنه ينطق بما يريده رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو.
الكلام يعني بالضبط أن تكون جنين «أمثولة» تتحطم فيها مقومات الحياة، حتى يدب الذعر في أنحاء الضفة الغربية.
بتعبير آخر ل«كاتس» قال إن: «عملية جنين جزء من عملية أكبر ضد إيران والميليشيات الحليفة لها». إنها محض ذريعة لتسويغ فرض السيادة الإسرائيلية على الضفة الغربية.
من حيث التوقيت، يستهدف نتنياهو الدخول في حرب جديدة خشية عواقب وقف إطلاق النار على مستقبل حكومته.
لم تكن هدنة غزة خياره، فقد رفض مشروعاً مماثلاً في مايو/أيار الماضي قدمه الرئيس الأمريكي السابق جو بايدن باسمه، لكنه لم يتبناه ولم يدافع عنه وعمل على إجهاضه.
كما ليس بوسعه الانتظار إلى حين انتهاء المرحلة الأولى من الاتفاق حتى ينهيه بذريعة أو أخرى، حسب نواياه المعلنة، خشية أن تفضي التفاعلات الداخلية الإسرائيلية إلى إحكام الخناق عليه وإجباره على الاستقالة وخسارة مستقبله السياسي.
كان تصدع تحالفه الحكومي باستقالة وزير الأمن القومي المتطرف إيتمار بن غفير احتجاجاً على وقف إطلاق النار في غزة، الذي اعتبره كارثياً، وتلويح وزير متطرف آخر يتسلئيل سيموتريش بالاستقالة، داعياً جوهرياً لفتح جبهة حرب جديدة حتى يتجنب انهيار حكومته.
يجد نتنياهو نفسه في هذه اللحظة أسيراً سياسياً لدى سيموتريش وكلمته نافذة في الخيارات الرئيسية.
إنه رجل المستوطنات والمستوطنين وقضيته الرئيسية فرض السيادة على الضفة الغربية بلا إبطاء.
نتنياهو يشاركه الأفكار نفسها، لكنه قد يميل إلى شيء من التحسب قبل تفجير الضفة الغربية.. فيما يطلب هو برهاناً أمام قواعده اليمينية المتشددة يثبت أن وجوده في التشكيل الحكومي أفيد من استقالته.
المثير أن آخر استطلاعات الرأي العام في الدولة العبرية تكشف أن أغلبيته مع إنفاذ اتفاق وقف إطلاق النار لإعادة جميع الأسرى والرهائن في غزة.
إذا أجريت الانتخابات الآن، فإن حزب «الصهيونية الدينية»، الذي يترأسه، لن يتجاوز نسبة الحسم.
وفق الاستطلاعات نفسها، فإن حظوظ الليكود ارتفعت عما كانت عليه من قبل، لكن نتنياهو لا يريد أن يغامر، أو أن يجد نفسه خلف جدران السجون محكوماً عليه بتهم الفساد والاحتيال والرشى.
كانت استقالة رئيس أركان الجيش الإسرائيلي هيرتسي هاليفي إثر الإعلان عن هدنة غزة معترفاً بمسؤوليته الكاملة عن التقصير الفادح في 7 أكتوبر داعياً جوهرياً آخر لمزيد من القلق عند مركز صنع القرار.
احتذى موقف هاليفي قادة عسكريون آخرون أبرزهم قائد المنطقة الجنوبية يارون فينكمان.
الاستقالات في توقيتها وسياقها بدت نوعاً من حفظ ماء وجه القيادات العسكرية بدلاً من الخضوع لإهانات الإقالة، التي يتبناها رموز اليمين المتطرف حتى يمكن إعادة بناء القيادة العسكرية وفق تصوراتهم لإدارة الحروب.
إنه زلزال حقيقي في المؤسسة العسكرية، توابعه قد تضرب في صلب أدوارها وطبيعة النظرة إليها بالمجتمع الإسرائيلي. ثم إنه يجعل من مثول نتنياهو أمام جهة تحقيق مستقلة مسألة محتمة الآن، أو في المدى المنظور عن مسؤوليته السياسية عن الفشل الذريع في السابع من أكتوبر، لكنه يسعى بكل الطرق المشروعة وغير المشروعة لتأجيل أية محاسبة مفترضة لأطول فترة ممكنة، ربما يمكنه خلالها أن يحقق شيئاً مما يطلق عليه «النصر المطلق»!
لا يوجد ما يدعو للاعتقاد بأنه سوف ينجح بالضفة الغربية فيما فشل فيه بغزة. إذا فرضت السيادة الإسرائيلية على الضفة الغربية بقوة السلاح وأعمال العنف فسوف تفتح أبواب الجحيم كلها مرة واحدة وتمتد نيرانها إلى كل مكان.
إنها الكراهية عندما تتجاوز كل حد وتصور.كل شيء سوف يكون محتملاً، هدم المسجد الأقصى والقتل على الهوية الدينية بأي مكان في العالم.
سوف تتقوض إلى الأبد أية رهانات على القانون الدولي، الذي يجرم الاستيطان في الضفة الغربية، أو أية رهانات أخرى على «حل الدولتين»، وتتحلل السلطة الفلسطينية من تلقاء نفسها، رغم أدوارها في التنسيق الأمني مع إسرائيل لملاحقة جماعات المقاومة!
أين إدارة «دونالد ترامب» من ذلك كله؟! في يومه الأول بالبيت الأبيض صدرت عنه إشارات خطرة تشكك بقدرة اتفاق وقف إطلاق النار بغزة على الصمود لما بعد المرحلة الأولى، وتلغي عقوبات أمريكية على مستوطنين إسرائيليين ارتكبوا أعمالاً إجرامية مروعة بحق فلسطينيين عزل.
الأخطر هو التعهد بإدارة معركة ضد محكمتي العدل الدولية والجنائية الدولية، لمنع الأولى من إدانة إسرائيل بارتكاب جرائم إبادة في غزة.. وتعطيل الثانية عن متابعة مذكرتيها بتوقيف نتنياهو ووزير دفاعه المقال يوآف غالانت بتهمة ارتكاب جرائم حرب.
هذه كلها نذر انفجار كبير يستدعي المقاومة الفلسطينية من جديد، التي أثبتت جسارتها وصلابتها دوماً، لتقول كلمة أعدل القضايا الإنسانية في التاريخ الحديث كله.
0 تعليق