يبدو أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وإدارته يستهدفون الصين، كما كانت الإدارة السابقة للرئيس جو بايدن، بالإضافة إلى كندا والمكسيك أكثر من أي بلد آخر. لذا بدأ ترامب بفرض رسوم وتعرفة جمركية على صادرات البلدان الثلاثة فور توليه منصبه.
لكن المشكلة الكبرى هي ما يعتزم ترامب فرضه من رسوم وتعرفة جمركية وغير ذلك من الإجراءات بحق الاتحاد الأوروبي. ليس لأن أوروبا هي الشريك الأهم للولايات المتحدة فحسب، ولكن لأن التحالف الأوروبي الأمريكي عبر ضفتي المحيط الأطلسي هو عماد ما يسمى في السياسة الدولية «الغرب» بكل ما يعنيه اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً...
واضح أن احتمالات الشقاق عبر الأطلسي لا تقتصر فقط على الحرب التجارية التي بدأتها إدارة ترامب مع كل شركاء أمريكا حول العالم. بل إن ترامب ينوي مضاعفة ضغوطه التي بدأها في فترة رئاسته الأولى قبل نحو أربع سنوات، معايراً أوروبا بأنها لا تستطيع حماية نفسها من دون القوة العسكرية الأمريكية، ومطالباً الدول الأوروبية بأن تدفع لأمريكا ثمن ذلك.
هدّد ترامب في فترة رئاسته الأولى بأن يقلل مساهمة بلاده في حلف شمال الأطلسي (حلف الناتو) ما لم ترفع أوروبا مساهمتها في تكاليف الحلف. ومن المتوقع أن يعيد تلك التهديدات بمزيد من المطالب من أوروبا.
مع أن الدول الأوروبية بدأت منذ نهاية العقد الماضي تبحث سبل زيادة قدراتها العسكرية، تحسباً لتلك التهديدات، إلا أنها بالفعل تظل بحاجة للقوة العسكرية الأمريكية كرادع لأي تهديد لأمن أوروبا. وهذا الأمر بالتحديد قد يكون محصوراً في العلاقة الأوروبية–الأمريكية، رغم أن ترامب كرّر من قبل مطالب مماثلة من كوريا الجنوبية وغيرها.
مما يزيد انكشاف أوروبا في اعتماد أمنها على أمريكا ما حدث في 2022 حين دخلت القوات الروسية أوكرانيا. رغم أن دول أوروبا الكبرى سارعت بدعم كييف، إلا أن الدعم الأهم في مواجهة موسكو كان من واشنطن. وأدرك الأوروبيون تماماً أنهم من دون العون العسكري الأمريكي لا يمكنهم مواجهة أزمة مماثلة لأزمة أوكرانيا.
منذ بدء إدارة ترامب حربها التجارية، والأوروبيون في حالة اضطراب بشأن خطوتهم التالية: هل يتخذون إجراءات انتقامية بالرد على رسوم ترامب بفرض رسوم وتعرفة جمركية على صادرات أمريكية لأوروبا أم يحاولون التفاهم مع واشنطن بشأن حلول وسط حفاظاً على التحالف عبر الأطلسي؟
وبينما المسؤولون الأوروبيون في بروكسل وفي العواصم المهمة لدول الاتحاد الأوروبي، فاجأهم ترامب بالتحدث مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والاتفاق معه على بدء محادثات فورية لحل أزمة أوكرانيا. حينئذ أصيب الأوروبيون بالصدمة، لأنهم أصبحوا خارج العملية تماماً، وكما يقول المثل، «بقوا في الظلام» فيما يتعلق بما يجري التفاوض عليه. فلا إدارة ترامب استشارتهم، ولا حتى أبلغتهم بما يجري التفاوض بشأنه.
في الوقت نفسه، يسمع الأوروبيون التصريحات الأمريكية بأن واشنطن لن تقدّم أيّ دعم مادي لأوكرانيا، ولن ترسل قوات لمراقبة أي اتفاق أو حماية السلام المزمع التوصل إليه. وأن الأمر متروك للأوروبيين أن يقوموا بتلك المهام. وكما قال أحد المسؤولين الأوروبيين الكبار في تصريحات صحفية فإن إدارة ترامب تقول لهم بشكل واضح: «علينا الوصول إلى صفقة سلام وعليكم الباقي».
المشكلة الأخطر أن الأوروبيين لا يعرفون ماهية ذلك «السلام» الذي يتفاوض ترامب مع بوتين عليه، ولا دور لهم على الإطلاق فيه، بل إنهم حتى لا يتمّ إطلاعهم على ما يجري من جانب الأمريكيين. لم يعد الأوربيون قادرين على كتم الغضب من تصرفات واشنطن.
تعلن إدارة ترامب بوضوح أنها لن «تقدّم» شيئاً لأحد، بل على العكس هي تريد أن «تأخذ» من الجميع. وتلك الطريقة في العلاقات تقترب من «البلطجة» أكثر منها علاقات «تبادل منفعة» بين الشركاء. وبالطبع، لا يمكن إنكار «الجميل» والصنيع الأمريكي للأوروبيين بمشاركة واشنطن للحلفاء في الحرب العالمية الثانية، ما ساهم في نصرهم على ألمانيا ودول المحور.
كما أن «مشروع مارشال» من مساعدات مالية واقتصادية أمريكية لدول أوروبا المنهكة بعد الحرب كان بذرة النمو الاقتصادي الأوروبي منذ نحو ثلاثة أرباع القرن. صحيح أن الولايات المتحدة حققت مردوداً في غاية الأهمية من تلك المساعدات، لكن إدارة ترامب لا ترى سوى أن أمريكا «قدّمت» والآن بحاجة لأن «تأخذ».
ربما لا تكون هناك مشكلة لدى الأوروبيين في أن «يقدموا» لأمريكا، لكن أن يتم ذلك في إطار من الشراكة القائمة على المنفعة المتبادلة، والتعاون من أجل تحقيق المصلحة للجميع عبر الأطلسي، وليس فقط لمن على جانبه الغربي فقط.
أن تشهد علاقات أمريكا مع منافسيها مثل الصين وغيرها توترات وتصعيداً، تجارياً أو سياسياً، فهذا أمر منطقي إلى حدٍّ ما. أما قوة أمريكا كقطب أوحد في العالم وزعيمة للتحالف الغربي المهيمن دولياً فتعتمد إلى حد كبير على العلاقات القوية مع شركائها وفي مقدمتهم أوروبا. ومن شأن الشقاق مع أوروبا أن يضعف تماماً تلك الميزات الأمريكية، وبشكل يمثل ضرراً على الأمد الطويل.
[email protected]
0 تعليق