ما رأيك في مداعبة النّحاة، بطريقة قد تلوح مستثيرة؟
ربّما، فثقيلٌ على أهل الذكر اللغوي التشكيك في سلامة الأساس الذي قامت عليه قواعد النحو العربي. تخيّل أن تقول لأعلم الناس بشؤون العربية: إن هذا الصرح الشامخ منذ أربعة عشر قرناً، إنما بني في ثلاثة قرون أو أربعة، بطرائق غير منطقية ولا منهجية، وجميع النحاة بعدهم هم تابعون بلا كيف ولماذا. سيهجوك القوم بقصائد قوافيها من الهمزة إلى الياء.
التعقيدات النحوية، التي أنشبت أظفارها في جيد العربية، نشأت عفويّةً ذوقيّةً عاطفيّةً، غير منطقيّة ولا عقليّة ولا منهجيّة علميّة. مثلما يحدث في أسراب الطيور، أوّل طائر يطير، يتبعه الجميع. كذلك النحاة، أوّل من استمدّ من الشعر الجاهلي قواعد العربية، وضع دستور استمداد قواعد النحو من فنّ كلامي قائم على البلاغة. النحو شيء والبلاغة شيء آخر تماماً. في المقابل، الله أعلم بعدد شواهد النحو التي لفّقتها أكاذيب حمّاد الراوية، الفارسي، وخلف الأحمر، الأوزبكي، وصاحب الألفيّة ابن مالك.
ليس القصد أنّ «ما بُني على باطل فهو باطل»، لكنّ جعل الشعر مصدر تشريع قواعد اللغة، جرّ انجرافات أخرى، كعدم أخذ الشواهد من شعراء العصر الإسلاميّ، وكأن شعراء الجاهلية أعلم بالعربية وأسرارها من أبي العلاء. يجب التنبّه لخطورة تلك الحركة، التي يبرّرونها بالحفاظ على النقاء، فالأرجح أنها أدّت إلى تعطيل ظاهرة حيويّة في نموّ اللغات: «علم تطوّر الدلالات». بلا شكّ. في المعاجم مثل «أوكسفورد» و«لاروس»، يضيفون بانتظام كل ما يستجدّ من المعاني. في العالم العربي، في عصر الذكاء الاصطناعي القوي، السائر نحو إدراك ذاته، يظل أبناؤنا يردّدون شواهد ابن هشام الأنصاري: «كناطحٍ صخرةً يوماً ليوهنها.. فلم يُضرْها وأوهى قرنَهُ الوعلُ». في الأقل نعطيه أمثلة فيها الرقمي، الشبكة، الليزر، المسبار الفضائي، التشابك الكمومي، نموذج اللغة الكبير، المعادن النادرة، استشراف المستقبل...
المأساة هي أن تلك «الرجعيّة» اللغوية أوهمت الكثيرين بأن المعاجم القديمة صالحة لكل زمان ومكان، لهذا نام العرب عن تطوّر المعاني عبر الزمن، والأخطر ألف مرّة، عدم تبسيط القواعد وتطويرها. ذنب النحاة القدامى أنهم جرّاء تضييق الخناق على الفلسفة في تاريخنا، أرادوا تحويل النحو إلى منطق وفلسفة، فعقّدوه وعقّدوا الأجيال. تأمّلوا ما في كتب النحو المدرسية، في بلاد العرب، واستمتعوا بالشواهد التي يفصلها عن الدارسين خمسة عشر قرناً، ويزيد.
لزوم ما يلزم: النتيجة المأزقيّة: عندما يتوهم الناس أن الأصالة هي الماضي والماضون فقط، ينسون بناء أصالتهم هم. انظروا كم من العرب لهم حضور في العصر.
[email protected]
0 تعليق