يحيى زكي
تحمل التكنولوجيا الحديثة مجموعة من المفارقات اللافتة، التي تدفع الذهن إلى طرح الأسئلة حولها، فمثلاً كان من المتوقع أن تسهل تلك التكنولوجيا الوصول إلى المعرفة، ولكن الذي حدث أن إنتاج المعرفة تراجع. ففي الماضي عندما كان الباحث يرتحل وراء كتاب أو مرجع ازدهرت المعرفة في ظل شح المعلومات وندرتها، والأهم من ذلك ازدهار القدرة على التفكير المركب الذي يبدأ من مقدمات ويستخدم أدوات ومناهج، ويقارن بين أحداث ووقائع ومعطيات ونتائج مخبرية. كلٌّ بات على وشك الاختفاء الآن، فالمعرفة أصبحت على قارعة الطريق، ولكن وسائل تحليلها والتعامل معها تعيش أسوأ مراحلها.
مفارقة أخرى تتمثل في تراجع الحاسة النقدية، في الفكر وفي النقد الثقافي والأدبي والفني، والتناقض هنا نلاحظه في أن كل الآراء وخلفياتها باتت معروضة في «متجر» التكنولوجيا، ولكن مهارة التقييم والمراجعة بدورها باتت على وشك الاختفاء، مع توافر حالة من الصخب حول وقائع تتحول إلى «ترند»، وإن كان النفَس النقدي فيها سطحياً وتافهاً ويخلو من أية نظرة عميقة ولا يلبث أن يتلاشى. إذن فالتفاعل مع «الترند»، إذا جاز أن نرى فيه لمحة نقدية، فسنلاحظ أنها لمحة سريعة وعابرة ولا يمكن البناء عليها.
يرتبط الوعي بالحاسة النقدية وأيضاً الشعور بالتميز وامتلاك وجهة نظر في الحياة، ولكن تلك القيم تتراجع بدورها مع غياب ملكة النقد.
وحتى أكثر وظائف التكنولوجيا الحديثة أصالة، ونعني قدرتها على إشاعة التواصل بين البشر، خلقت مفارقتها بنفسها، حيث بات الكثير من البشر يشعرون أنهم يعيشون في جزر معزولة، يفتقدون إلى التواصل الحميمي، ويعانون من حالة اغتراب مركبة، تجاه تلك التكنولوجيا التي تقذف بهم في عالم وهمي، وتجاه الآخرين الذين تضعف علاقتهم بهم.
بدأت التكنولوجيا مبشرة أيضاً بقدر كبير من الحريات سيحصل عليه البشر، ولكن النتائج جاءت متناقضة مع الوعود، ومفهوم الحريات هنا تجاوز حتى ما نبّه إليه البعض بأننا سنعيش في مجتمعات مراقبة أقرب ما تكون إلى مجتمع الأخ الأكبر في رواية جورج أورويل الشهيرة «1948». فمع تطور التكنولوجيا وانكشاف أنها الرديف العلمي للرأسمالية في أعلى تجلياتها، لم تعد أزمة الحريات سياسية، ولكنها باتت اجتماعية واقتصادية، فنحن مكشوفون على مدار الساعة عبر بياناتنا الرقمية التي أصبحت على المشاع، لكل من يريد أن يعرف تفضيلاتنا وسلوكياتنا وآراءنا.
خلقت التكنولوجيا الحديثة أكبر حالة من إتاحة الكلام في التاريخ، أو ما يمكن تسميته «مكلمة تاريخية»، وهي «مكلمة» مسموعة ومرئية، ونظراً لضخامتها تعجز حاستا الأذن والعين على فرزها وتقسيمها إلى جيد ورديء، نافع وضار، هي في النهاية ليست أكثر من ضوضاء، وصاحب ذلك بالتبعية تدهور في ما يتحلى به البشر من قدرات استطاعوا من خلالها الهيمنة على العالم الطبيعي، قدرات تتركز في العقل والتخيل، ولم يعد الحديث في ظل هذه الصورة عن تراجع الإنسان نفسه لتحل مكانه الروبوتات وبرامج الذكاء الاصطناعي ضرباً من الخيال العلمي.
0 تعليق